صحافة ودبلوماسية
رن الهاتف في مكتبه. على الخط قالت الكاتبة الخاصة للوزير إن الأخير يطلب مدير الوكالة باستعجال لا يحتمل أي تأخير. عبر الإعلامي عبد الجليل فنجيرو المسافة من زنقة المدينة إلى وزارة الأنباء، وهو يفكر في أسباب نزول المكالمة. كان راجع أوراقه واطلع على آخر قصاصات وكالة المغرب العربي للأنباء، كي لا يفوته أي عتب أو ملاحظة.
عندما دلف إلى مكتب الوزير عبد الواحد بلقزيز، سلمه بيانا مطبوعا بنشاط وزارة الطاقة والمعادن، وبدا كمن يوصيه خيرا في الاهتمام بما اعتبره الوزير حدثا. لم يكن من طبع فنجيرو أن ينفعل أو يغضب بسرعة. لذلك عاود استفسار الوزير إن كان طلبه في قضية أخرى، وإذ تيقن أن لا شيء في الأجندة، رد على الوزير بأنه كان في وسعه أن يبعث البيان عبر «شاوش»، فالوكالة تتوصل يوميا بعشرات الموضوعات المماثلة، ولا تحتاج إلى تأشير الوزير أو المدير.
واقعة مثلها المئات عاينها الإعلامي الذي أسهم بجهد وفير في ترتيب المرحلة الانتقالية لمسار وكالة الأنباء من القطاع الخاص إلى العام. ولعله يحتفظ بذكريات مثيرة أو مريرة لعلاقته بالوزراء المتعاقبين على القطاع.
بين من يعتبر نفسه صحفيا يزيد على ملكات مهنة المتاعب سلطة التوقيع، ومن يتعلم الحلاقة الصحفية في رؤوس اليتامى، وبين من لا يفرق بين دور الوكالة والمنشور الدعائي، والقاسم المشترك لدى الكثيرين أنهم لا يهتمون بغير التلفزيون، فالوكالة تأتي في آخر الترتيب، مع أنها الأصل والمرجعية.
هاتف رئيس تحرير بالوكالة نظيره في التلفزيون، يسأل عما سيفعله حيال نتيجة مباراة في كرة القدم جمعت بين المنتخب المغربي ونظيره الليبي وانتهت بالتعادل إصابة في كل هدف. رد الراحل الطاهر بلعربي أنه لا يستطيع بث خبر عن دولة معادية، خصوصا إذا كان اسمها ليبيا العقيد معمر القذافي. ربما كان يستدرج رئيس تحرير الوكالة لحيازة موافقة ما. بيد أن عبد الجليل فنجيرو استغرب لعدم بث الوكالة خبرا رياضيا صرفا، أصبح في حكم الأمر الواقع. فقد كانت خبرة المهني لديه تغلب على غيرها من الحساسيات.
تعلم على امتداد مسار طويل أن يلوذ إلى الصمت. وفي حكاية أن الوزير عبد الهادي بوطالب انتدبه لتمثيل المغرب في مؤتمر وزراء الإعلام العرب في القاهرة. قال له: «لا تنس أن تُضمن الخطاب كل ما يليق بالإطناب والكلام المباح، وفي حال طرح اقتراح له علاقة بمساهمة أو كلفة مالية، عليك أن تغلق فمك والتزم الصمت». والراجح أنه اقتفى هذا السلوك، إذ يتعلق الأمر بمهام بالغة الدقة، حتى أن بعض العاملين في الوكالة أصبحوا متخصصين في ترجمة مضامين الدروس الدينية والخطب والحوارات الرسمية بإتقان شهد به الجميع.
كانت وكالة المغرب العربي للأنباء العين التي لا تنام، وشكلت أهم مصدر للمعلومات. بل إن مراسليها حاوروا زعامات دولية في مختلف بقاع العالم يشيدون بتجربة المغرب السياسية الناشئة. مرة كتبت مجلة محسوبة على الجزائر تقريرا عن الأوضاع في البلاد، تحدثت فيه عما وصفته بنظام الاستبداد، وعرجت على الانتخابات منوهة بحيازة المعارضة مقاعد هامة.
طلب فنجيرو إلى أحد العاملين إعداد تقرير إخباري عن الموضوع، ودهش الصحفي كيف لمدير وكالة رسمية أن ينشر فقرات من مقال يصف النظام بالاستبداد. فرد عليه عبد الجليل، أن ذلك المقال يناقض نفسه، وأي استبداد هذا الذي يسمح بوجود المعارضة؟ ولئن كانت الوكالة انتقلت من سن إلى آخر، كما في طبيعة الأشياء والتطورات، فإن ذلك لا يمنع من الإقرار بأن مراحل التأسيس والبناء تكون أكثر ترددا واضطرابا. ولا يمكن الحكم على أي تجربة خارج سياقها التاريخي والسياسي والمهني. ومن يحارب بطلقات معدودة من بندقية قديمة، ليس مثل من يوجه حروبه عبر الأقمار الصناعية. فقد كانت وكالة المغرب العربي للأنباء مدرسة أنجبت كفاءات وصارعت على كل الواجهات. بل إنها احتفظت لعقود بصفة مميزة، كونها الوكالة الوحيدة في منطقة الشمال الإفريقي التي تحمل اسم «المغرب العربي» سنوات قبل تأسيس الاتحاد المغاربي، وظلت هذه السمة مثار انزعاج من طرف الخصوم المناوئين.
في أكثر اللقاءات التي جمعتني والصديق عبد الجليل فنجيرو، كان ثالثنا الهاجس الإعلامي المهني، ولم يكن يتردد في الاعتراف بجوانب التقصير. كان يرى أن دور الوكالة يمكن أن يزيد على فكرة الوسيط في نقل الأخبار، لكن المشكل كان قائما في مزاحمة التلفزيون. وبدل أن تطعم نشرات أخباره بتقارير وأنباء خاصة، كان يصار إلى معاودة استنساخ نشرات التلفزيون.
في فندق في بيروت اقتسمنا قهوة الصباح، كان فنجيرو يشغل منصب سفير المغرب في لبنان، ولم يفارقه حدس الصحفي الباحث عن آخر أخبار البلد. قلت له إن الدبلوماسية تتوج مسار الإعلاميين الذين هم سفراء في الحل والترحال. كان سعيدا برد الاعتبار، وبدا أكثر حنينا إلى عالم الصحافة، منه إلى أي شيء آخر.
هل أخطأ طريق الاختيار؟ لا أحد يدري، فالعسكري الذي قطع صلته بعالم الانضباط والجدية كان في وسعه أن يصبح جنرالا. ومن غير مسؤولي المؤسسات الإعلامية يمثلون جنرالات الحروب الإعلامية، أكانوا في مقدمة الجنود والضباط أم وراء هندسة المواقع والهجمات. فقد آن لجنرال وكالة المغرب العربي للأنباء أن يستريح وفي رصيده ما يكفي من الأوسمة والعثرات أيضا. وما وقع الأخطاء يكون كبيرا على النفوس الأبية.