«شهادة عالمية» بحوزة حارس مقبرة
هل يمكن لحارس مقبرة أن يصبح وزيرا؟ مهلا فالمهن التي تُعلم الصبر والتأمل لا تقتل الطموح. وما كان السعي بحثا عن الرزق تهمة، إلا حين ينحرف عن الأعمال الشريفة التي تصون الكرامة وتؤثر القناعة. ومن كانت هجرته إلى الحلال في الأرزاق والمعاملات والأنساب، كان له ذلك. أما من كانت هجرته إلى غيره فذاك شأنه.. «وكل شاة تعلق من رجلها».
ركزت أبحاث سوسيولوجية على أصول الوزراء وطرائق القفز من موقف لآخر، أكان بمرجعية سياسية أو عائلية، أو في نطاق تشابك المصالح.. فقد ارتقى محامون وأساتذة وأطباء ومهندسون ومديرو شركات، من دون استثناء العلماء والخبراء والزعامات الحزبية، إلا أن وضعية حارس مقبرة ستكون استثناء في سياقها.. ليس من منطلق المهنة في حد ذاتها، لأن كل المهن تستحق التقدير والاحترام. وحين لم يدر في خلد أحد أن عاطلا عن العمل يمكن أن يصبح نائبا في البرلمان، استطاع شاب من حملة الشهادات الجامعية العاطلين عن العمل، أن يخلق المفاجأة، نيابة عن حزب يساري.
بدأت الحكاية من السياسة وانتهت في ما تصنعه بالمرء، ترفعه إلى عنان السماء أو تهوي به على الأرض، والشاطر من لا يَعلق بينهما. وكان أحد السياسيين البارزين يردد في زمن ولى: «لا يقبل على عالم السياسة إلا انتهازي أو حكيم». ويردف بأنه، مثل أي ظواهر اجتماعية تجمع الشرفاء وقطاع الطرق وعابري السبيل، وكل من في نفسه حاجة يقضيها، مع اختلاف المساعي والأساليب. ولولا أن منطق العقلاء تغلب على غيره من الشوائب، لما اكتشف العالم محاسن الديمقراطية والشورى والرضوخ لإرادة الناخبين.
بين الحكمة والانتهازية مساحة سنوات ضوئية، وسواء أكان ذلك السياسي يقصد بالعقلاء من يدينون لحزبه بالولاء ويسخرون من منافسيه، أو كان يروم الترويج لأخلاقيات العمل السياسي، فالانتهازية ما كانت حكرا على السياسة، وشملت كل المناحي من أقربها إلى أبعدها. وكذلك هي مختلف الظواهر لا تثير الانتباه إلا عند الاستثناء. غير أن أقرب الطرق في الانتساب الحزبي تبدأ من القمة، لذلك كان سياسي شاطر يقول إن الانتماء إلى الأحزاب التقليدية يتطلب الوقوف طويلا في قاعة الانتظار، أما في حالات الأحزاب الوليدة، فبعض القفز إلى الواجهة لا يمر عبر التدرج.
عندما أسس المستشار أحمد رضا كديرة «جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية»، رفقة إدريس السلاوي والحاج أحمد أبا حنيني، ثم انضم إليها المحجوبي أحرضان وآخرون.. لم يفارقه حدس أن السياسة تنطلق من الأفكار، ولابد لها من أذرع وأرجل تنظيمية تلوح بها وتمشي عليها، فقد كان سجين تنظيراته ومرافعاته. بينما المنافسات الانتخابية تحتم النزول إلى الشارع، ومخالطة الناس في الأسواق والمصانع والحقول والتجمعات المدنية.
بيد أن المشي في أزقة تتخللها الحفر، والاجتماع بالناس في ساحات يتطاير منها الغبار تحت لسعات الشمس الحارقة، يتطلب إلغاء ربطات العنق والأحذية اللامعة وتزيين المعاصم بالساعات الذهبية. وكان أحد مرافقي زعيم حزبي يجبره على ارتداء بدلات «سبور» كي يقربه إلى الجمهور. لأن الخطابة في المهرجانات الحاشدة، ليست مثل الصالونات المكيفة. فاكتشف الزعيم إياه أن السياسة تبدأ من اللباس ونفث الشعر.
ذات اجتماع اقترب إلى المستشار كديرة رجل وسأله عن مترشح الجبهة إلى حي شعبي في الدار البيضاء.. التفت كديرة، الذي كان قبل ذلك وزير داخلية، يطلب معلومات عن طبيعة وتركيبة تلك الدائرة الانتخابية. لكن حارس مقبرة في المدينة إياها تولى الإجابة عنه بالوكالة. فقد كان ملما بتفاصيل اجتماعية وحزبية تغفل عنها المعطيات شبه الرسمية، وكان ذلك مدخله إلى عالم السياسة.
قبل انفضاح سياسة الولائم والمآتم التي يكون لها مفعولها في استمالة الناخبين، بدا أن حارس المقبرة أكثر قربا إلى الناس. كيف لا وهو العارف بمشيئة الأقدار؟ ومن يومها صارت له كلمته في «الحل والعقد» ولم يعد يفارق الزعيم المؤسس للجبهة، ينصحه بما يغيب عنه في التعاطي والهواجس الانتخابية والمسائل التنظيمية. ثم تخلص من حرفته واقتحم مجاهل جديدة طوحت به إلى أعلى.
استخدم ذكاءه الفطري، بما لم يتأت لأحد قبله. وعندما تبخرت «جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية» في الهواء، لم تتبخر أحلامه ولا تعطلت مساعيه. أقام علاقات مع الأضداد وأوحى للجميع أنه لا ينطق عن الهوى. تارة ينقل فكرة عن المستشار كديرة، وأخرى يدبج قصة عن وزير الداخلية المتنفذ إدريس البصري، وفي كل الأحوال كان أكثر انسجاما في طموحاته التي ستبوئه منصب وزير.
اختلط الأمر على الناس بين قائل إن هذه الجهة أو تلك تدعمه. وبقيت في سجله السياسي عبارة من جملة قصيرة تقول إن الرجل كان يتوفر على «شهادة العالمية» من دون البحث عمن سلمه إياها.