إعداد: سعيد الباز
نافذة مشرعة على الأدب والإبداع هنا وهناك وفي كل مكان في العالم، ننتقي منه مشاهد جديدة ومختلفة من أجل أن ترسم معالم لأنطولوجية مفتوحة. تقرّب بعض نفائس الشعر البعيدة عن اليد والعين، ولتجلو عنها غبار النسيان وتضعها في مرآى قراءة أخرى ممكنة أو محتملة…
عرف الشعر المصري خاصة في أواسط التسعينيات من القرن الماضي حركة شعرية متميزة، امتد تأثيرها على المشهد الشعري برمته. هذا الزخم الشعري كان من ورائه أو من علاماته البارزة جماعات شعرية مثل حركة «إضاءة 77» وحركة «الأربعائيون»، وكان من اللافت للنظر أنهما معا قد أصدرتا مجلتين شعريتين تلتهما عدة مجلات مثل «الجراد» و«الكتابة الأخرى» كان لهما إشعاع كبير في مصر وفي العالم العربي. المسألة الأخرى البارزة لهذا المشهد الشعري أنه انتصر بالكامل لقصيدة النثر بكل أشكالها المختلفة، وخلال هذا المسار ظهرت عدة أسماء وتجارب شعرية مهمة شكلت إلى حد الآن أكثر من جيل شعري. خلال هذا المرحلة يمكن أن نذكر إيمان مرسال التي كان لكتابها الشعري «ممر معتم يصلح في تعلم الرقص» وقع كبير جعلها تحتل مكانة هامة بين شعراء قصيدة النثر، ازداد تأكيدها أكثر بإصداراتها التالية «المشي أطول وقت ممكن» 1997 و«جغرافية بديلة» 2006، وأخيرا «حتى أتخلى عن فكرة البيوت» 2013. الملاحظ على تجربة إيمان مرسال أنها تشتغل في كل كتبها الشعرية على موضوعات محددة موظفة أسلوبا سرديا يستمد متانته من التركيب المتميز للصور الشعرية المنتقاة برهافة وبحس تصويري بالغ الدقة. ففي نص «لطيران ذاتي» تنتقل الشاعرة عبر محطات محددة تجمع بين عناصر ثلاثة (الحب- الخيانة- الانتحار). الشاعر عماد أبو صالح حالة فريدة في الشعر المصري، فهو يطبع دواوينه على نفقته الخاصة في نسخ محدودة جدا ويقوم بتوزيعها بنفسه، رغم الإقبال الكبير عليها، خاصة ديوانه «كان نائما حين قامت الثورة» 2015. خاصية أخرى تميز هذا الشاعر هي عناوين دواوينه المبتكرة مثل «كلب ينبح ليقتل الوقت» 1996 و»عجوز تؤلمه الضحكات» 1997، إضافة إلى رؤيته الشعرية الصادمة التي تتجاوز كل المواضعات واليقينيات. مع عماد أبو صالح ثمة منظور آخر للأشياء فكل ما هو إيجابي قد يتحول إلى سلبي، والعكس أيضا صحيح، ما يجعل النص الشعري مفاجئا ومباغتا للقارئ. فتصبح الشجرة بخلاف التوقع أصل العصا والنعش والمشنقة… ومن مدح الشعر أو الحرية إلى ذمهما. لكن الخلفية الكامنة وراء النص لا تخفى على القارئ، ففي طياته إدانة لواقع الظلم ومظاهر الاستبداد، سواء في ذمه للحرية أو الأشجار، أو شجب واقع الشعر اليوم وما يشهده من ضمور في قصيدته ذم الشعر. أما ممدوح التايب فيسير على خطى سلفه بتبنيه أسلوبا شعريا يستفيد من تقنيات متعددة في الكتابة مثل السرد التاريخي الذي ينمو ويتطور عبر خطين متوازيين، خط تاريخي وخط فردي إنساني يسمح برصد المفارقات وحالة التواشج بينهما أحيانا التي قد تصل حد الكوميديا.
عماد أبو صالح.. كان نائما حين قامت الثورة
ذمّ الأشجار
…
ما هي العصا؟
غصن شجرة
ما طاولة التعذيب؟
جذع شجرة
ما الصليب… ما الباب الذي يحجب الهواء، ما هو النعش؟
دلوني على شجرة، ليس فيها فرع جاهز لتعليق حبل
كل شجرة إغراء بمشنقة.
ذمّ الحرية
لا حرية في السماء
هي ليست حكرا على الطيور
ولا الأجنحة.
لا يحق للعصفور
أن يتكبر على الفأر
لأنه
– هو نفسه-
لا يمكنه أن يبقى
معلقا
– طول الوقت-
في الهواء.
لابد له
– في نهاية الطيران-
من عش
أو رصاصة.
ولا حرية على الأرض
مستحيل أن يتمتع بها واحد
دون آخرين
ستؤرّقه صرخات العبيد
في أزمنة غابرة
وعواء الكلاب في السلاسل
لا استثناءات
البشر والبهائم
إما نتحرر سويا، أو نتعفن سويا.
لو تؤمن بوجودها
انتظرها في السراديب
لا الساحات
في العتمة
لا النور
ربما تنال جزءا منها
في غرفتك
وحيدا
ومعزولا
ربما تكون محظوظا
وتبلغ شرفها كاملا
– يوما ما-
في بيتها المفضل: الزنزانة.
ذم الشعر
– اعطني سيجارة
تفضل
-من أنت؟
شاعر
-لماذا تجلس في الحديقة؟
أنتظر الشعر
-لا يسكن هنا،
تعرف مكانه؟
-المزبلة.
كيف؟
-حين يعثر جائعان
على تفاحة كاملة
هربت من أسنان عائلة سعيدة.
أكلاها معا؟
-كانا سيتقاسماها فعلا
لكن السكين
لمعت فجأة في نفس الكيس
من البيت نفسه
وحسمت الصراع
لصالح فم واحد.
له بيت آخر؟
-المذبحة
حين يتدحرج ذراع قديس
ويحضن عاهرة
في مصالحة حقيقية
بعد فوات الأوان
أنت شاعر؟
-كنت.
تركته؟
-أغواني وهجرني.
لماذا تجلس في الحديقة؟
-لأنصح الأطفال.
ماذا تقول لهم؟
-احذروه
يتخفّى أحيانا، في الحلوى.
وللشعراء الجدد؟
-أمامكم فرصة للهرب
سيحوّلكم إلى كلاب
تلهثون وراء خطواته،
اكتبوا روايات.
إيمان مرسال: المشي أطول وقت ممكن
لطيران ذاتي
أجلس أمام المرآة، في تدريب شاق
لإزالة الرائحة التي تركتها شفتان على عنقي
وبرغم أنّه لا حاجة لتوثيق الحزن
لا يفوتني أن أحسب دموعي
بحجم المناديل الورقية
التي سقطت في سلة المهملات
فأرى عيني أجمل من تصوراتي عنهما
وأفكر أن الفهم أجمل من التسامح
وأنني كنت معك
في رحلة لمكان مقدس
كنت في زي أميرة فرنسية من القرن السادس عشر
عندما أخذتني بعيدا عن الدير
كنت تدفعني لصعود سلّم رأسيّ معلّق على الهواء
ولما كان هذا مستحيلا مع كل هذه الكرانيش
كنت أخلع جيبونات دائرية
وأصعد
شدادات للصدر
أحزمة على شكل فيونكات
تتحول إلى فراشات ميتة عندما أفكها
وأصعد.
في أعلى سلّمةٍ
كنت عارية تحت رذاذ خفيف
لم أجدك
واستيقظت في سرير آخر.
لأصدّق أن هناك دائما
ما هو أكثر من الصواب
وأتأمل جلدي
حيث لا شيء يلتصق به
فقط
أزداد نحولا
كأنني أجهز نفسي
لطيران ذاتي.
ممدوح التايب: عصافير في شباك من غبار
أوركيد في حائط إسمنتي
في العامِ 1942،
وبينما هتلر يطاردُ الإنجليزَ
على شواطئ الإسكندريةِ
كان البوليسُ السياسي
يطاردُ المنشوراتِ في حواري القاهرةِ
وكان جدي يطاردُ جحشَه في الحقلِ.
في العامِ 1948،
وبينما اليهودُ، أطفالٌ وأمهات،
يُشحَنون في السفنِ
من أوروبا وإفريقيا إلى أورشليم..
كان أينشتاين يحدقُ في دهشةٍ
لأوركيدٍ نمتْ في الحائطِ الإسمنتي
وكان جدي يحدقُ في دهشةٍ
لبيضةٍ كانت تحتَ ديكْ.
في العامِ 1956،
وبينما الحلفاءُ يحتلونَ بورسعيد
اكتشفَ عبد الحليم مرضَه بالبلهارسيا
واكتشفَ جدي جدتي
صدفةً في السوقِ.
في العامِ 1969،
وبينما الجنودُ في الجبهةِ
يسقونَ بالدمِ نخيلَ الوطنِ
كانَ عبد الحليم يحاولُ
إنزالَ أبيهِ من على الشجرةِ
وكانَ جدي يضربُ عمي بفرعٍ منها.
في العامِ 1973،
وبينما الجنودُ يقبِّلون الرملَ
في الجانبِ الشرقي
كانَ الناظرُ ينقبُ عن الفحمِ
في مدرسةِ المشاغبين
وكانَ أبي يقضي أولَ أيامِه في المدرسةِ.
في العامِ 1988،
وبينما صدَّامُ يصوبُ طلقته الأخيرةَ شرقاً
كان الناسُ يتغنونَ بـــــــ لولاكي
وكنت أضربُ أحشاءَ أمي
لأولِ مرة.
في العامِ 1990،
وبينما صدَّامُ يعبئ بندقيتَه
للمرةِ الأخيرةِ
كان أبي يعبّئ حقيبَته
للمرةِ الأولى إلى الكويتِ
وللمرةِ الأولى وهو عندَ البابِ
قلتُ له: بابا.
في العامِ 2004،
وبينما الأمريكانُ يعدُّون بالسنةِ الضوئيةِ
رحلةَ مركبةٍ للمريخِ
كان العراقيونَ يعدُّون جثثَ قتلى السياراتِ المفخخةِ
وكنتُّ أعدُّ على أصابعي
كم مرة قالتْ لي زميلتي: أحبك.
في العامِ 2011،
وبينما الفجرُ يشقُ طريقَه
لميدانِ التحريرِ
كانتْ العتمةُ تدبِّر الفخَ
وكنتُ أعبئ حقَائبي
لأولِ مرةٍ إلى الكويت.
في العامِ 2017،
وبينما العالمُ يتهيأ لفصلٍ جديدٍ من كوميديا الآلهة
أحاولُ كتابةَ شعرٍ يليقُ بهذه الكوميديا
بينما طفلَتي – وأنا عندَ البابِ –
تقولُ لي «بابا» لأولِ مرة.