شوف تشوف

الرأي

شرق المغرب ومغرب الشرق

التفت المقاوم عبد الرحمن حجيرة إلى زعيم حزب الاستقلال علال الفاسي، وقال له بنبرة من ينتظر التأكيد، لا النفي: متى ستشرفون المغرب الشرقي بزيارة ينتظرها مناضلو الحزب بشغف؟ لم يتردد السي علال في جوابه، وألمح إلى أنه سيكون سعيدا بزيارة المنطقة الشرقية، وليس المغرب الشرقي. فقد كان يميز بين المفاهيم ويدقق في المصطلحات، كي لا تنفذ منها أفكار وتصورات خاطئة، وليس أخطر من التسميات ذات الإيحاءات الخادعة.
تيقن حجيرة بذكاء فطري أنه انساق لا شعوريا وراء الخطأ الشائع.. ما كان يهمه أكثر، أن يحصل على تأكيد موعد الزيارة، فقد تتغير المصطلحات وتبقى المواعد، حين لا يكون من شيء يلغيها سوى الأقدار. وظل على قناعته بأن تاريخ حركة المقاومة في المنطقة الشرقية لم ينصف بما فيه الكفاية، وانسحب الوضع ذاته على أقاليم ومناطق أخرى.. بل إن ملاحم نضالية في جنوب البلاد، إبان التحالف الفرنسي – الإسباني للإجهاز على جيش التحرير لم تنل قسطها من التعريف الذي يشحذ الهمم ويفتح عيون الأجيال، ولو أن تسمية المغرب الجنوبي قليلة التداول، في مقابل المغرب الصحراوي.
آفة المصطلحات رواتها. ومن الأخطاء الشائعة أن المنطقة الشرقية يطلق عليها اسم المغرب الشرقي، كما أن مدن وأقاليم الوسط تنعت بالداخل من طرف عديد من أهل الشمال. ولم يكن إصرار الزعيم علال الفاسي على شطب مقولة المغرب الشرقي من التواتر، منفصلا عن إيلائه المزيد من الاهتمام بالأوضاع على الحدود الشرقية، تلك التي توقف أمامها زحف العثمانيين يوم كانت مراكز النفوذ تتهاوى أمام سطوتهم. وعلى عكس دول أخرى أدمج المغاربة الكثير من أفواج العساكر العثمانيين في سلك الجيش المغربي بإمرة قادة عسكريين مغاربة.
وفي وقائع تاريخية أن السلطات الفرنسية ضغطت في مطلع القرن الماضي من أجل تسريح متعاقدين أتراك في الجيش، ويتردد بهذا الشأن أن قائد البعثة العسكرية التركية المدعو طاهر عارف اضطر إلى مغادرة المغرب والاستقرار في إسبانيا، ولم يقطع علاقاته بالمغرب. فالاندماج في قوات الجيش يعني الإذعان لسيادة الدولة، أي الميزة التي مكنت المغرب من الإفلات من سيطرة العثمانيين، حتى في مراحل ضعفه.
ومن المفارقات أن مظاهر الأذى الذي لحق بالمغرب كان مصدرها الشرق، فقد رفض إبرام اتفاق ترسيم الحدود مع السلطات الفرنسية التي كانت تستعمر الجزائر، اعتقادا منه أن الإخوة الجزائريين سيكونون أرحم بالحقائق التاريخية والقانونية، إلى أن يثبت العكس.
لعل السلطة الوحيدة، من بين التي تعاقبت على حكم الجزائر بعد استقلالها، والتي كانت أكثر تفهما للملف الحدودي، هي الحكومة المؤقتة برئاسة فرحات عباس، كونها أقرت بوجود مشكل حدودي سرعان ما تنكر له الرئيس الجزائري أحمد بن بلة الذي انحاز إلى سياسة المغامرة والتعنت.
لكن فكرة المغرب الشرقي ذات امتدادات وخلفيات أبعد من لغوية. من ذلك أن محاولات تقسيم المغرب على أساس جغرافي، ركزت في بعض المراحل على تسويق مقولة «المغرب النافع والمغرب غير النافع»، مع أن المنفعة العامة ترتبط بتأهيل الفضاءات والموارد، وما من منطقة في أي جزء من العالم إلا ويكون لها النفع الذي تستطيعه، عبر توالي مظاهر التعمير والإعمار. ومن سلبيات هذه النظرة أن التعيين في الوظائف يصبح «عقابا» في التوجيه إلى المناطق النائية، لأن هناك من يفكر بعقلية البعد أو القرب إلى الشريط الساحلي المنتج.
تلك قضية سياسية وهيكلية، لها أسباب وتداعيات. فقد اتخذت الجارة إسبانيا من مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين شمال البلاد مراكز لنفي المشاغبين والمناوئين، وحين تحولتا إلى مراكز تجارية أبدت تشبثا عنيدا في الاحتفاظ بهما، على خلفية حدود ما وراء البحار.
أذكر، بالمناسبة، أن شاعرا تقليديا من قبائل بني يزناسن يدعى قدور الورطاسي، كان موظفا بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ظل مواظبا على قرض القصيد في الذكريات الوطنية. وكتب يوما عن انتفاضة أبناء المغرب الشرقي في وجه الاستعمار. لكنه اضطر إلى استبدال وصف المغرب الشرقي، لأن الأستاذ عبد الكريم غلاب كان يناهض هذه التسمية بشدة، في مثل حرصه على سلامة اللغة.
علق الشاعر الورطاسي الذي كان فقيها لغويا، بأن الميزان سيختل في قصيدته. ضحك الكاتب عبد الجبار السحيمي وهو يقول: لا ضير في الوزن إن كان لا يلحن في اللغة، وكل الضرر في الأوصاف التي يفهم منها أن المغرب مغارب، موزعة على الشرق والشمال والجنوب. وحمد الله لأن المحيط الأطلسي لا يسمح بإطلاق النعوت على يابسة غير موجودة. بيد أنه مثل الشرق تكالبت أطماع قادمة من الغرب من وراء البحار في شكل غزوات حتمت على البلاد الالتفات إلى أسطولها البحري في وقت مبكر.
كان الصليب والهلال يتواجهان بحرا وبرا، وكان تفتيت كيان الدولة الموحدة من أبرز الأهداف التي التقت عندها مخططات إسبانية وبرتغالية، لا تزال الحصون التي صمدت في وجهها تحكي عن ملاحم المعارك الكبرى التي لم تكتف بإنقاذ المغرب، بل العالم الإسلامي الذي كان غربه يتعرض لشتى الأطماع الأجنبية. ومن دلالات الأسماء أن شمال إفريقيا بالذات كان يطلق عليه اسم «جزيرة المغرب» لكون البحر يحدها شمالا وغربا، بينما الصحاري تحدها من الجنوب، ما جعل هذه الجزيرة تتحكم في المداخل الشمالية لأوروبا والمعابر الجنوبية نحو إفريقيا. وفي كل ذلك كان اسم المغرب واحدا، أما مراكش فكناية بعاصمة الموحدين أو المغرب الأقصى.
لعله بسبب تحكم مدينة سبتة السليبة في الملاحة عبر البحر المتوسط زادت أطماع الإسبان والرتغاليين في المغرب الذي يظل واحدا، إذ تسقط نعوت التمييز الجغرافي وغيره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى