شذرات من كناش الكريدي
الطيب آيت أباه
كثيرةٌ هي ذكرياتي مع كناش الكريدي الذي قضيتُ عقودا طويلة خلف الكونطوار، مواظبا على تجسيد مبادئه الإنسانية، في واقع الحال والمحال أيضا، إلى أن حقّ وصفُ تجارة المواد الغذائية، ودون مبالغة، بمهنة الْغْدايد! ولولا ما نحسبُه من أجر محفوظ عند الله، نظيرَ ما نرجو أن يُتقَبّل خالصا لوجه الله، لما كان يجدر بأيّ بشر كيفما كانت مؤهلاته، أن يُوَشحَ بوسام مول الحانوت.
شخصيا لن أنسى ما حييت وجوها منها المستبشرة وأخرى ترهقها قترة، جمعتني بها معاملات تجارية، ترَكَت بصمات على صفائح الذاكرة. فكل الأجناس طوب وحجر، كما فيها الصالح فيها أيضا الطالح، أستعرض لكم منها اليوم شلة من الأفارقة السود، كانت تُشرف على مهمة تموينهم الأخت (ndéye) أو عائشة حسب تأويلها. إذ حصل ذات صيف أنني لم أنتبه إلى إشعارها بكوني سأقفل محلي التجاري لمدة عشرين يوما، أمارس فيها إنسانيتي مع أسرتي. فقد كنت أكتب الإعلان عن العطلة باللغة العربية. وقتَها كانت هذه السيدة مدينةً لي بمبلغ 400 درهم، وتزامن غيابي مع موعد مغادرتهم النهائية للمغرب في اتجاه فرنسا.
مباشرة بعد عودتي من العطلة، مخلوع الجلد من فرط الشمس والمصاريف، وقفتُ في مدار جاذبية الصاروخ التجاري، فانتشلني إلى دوامة الهموم، وما هي إلا رعشة جفن، حتى التحقتُ مجددا بمن لبثوا في جفنة آلة التصبين، يدورون ويتعصّرون، لتستخلص منهم الأبناك والشركات أوساخ الدنيا.
مستأنفا المسير، شرعتُ في تفقد ما لديّ وما عليّ، وطبعا كان من البديهي أن أدفع لقاء نظامي هذا، ما كرّسَتهُ عشوائيةُ القطاع من منافسةٍ عدائية، بحيث لا يَعدمُ نفر من إخواني في الحرفة أساليب الخُبث لاصطياد الزبناء بصنوف شتّى من الطعوم الكيدية.
ما علينا، فالمهم عندي أن لا أضع الناس جميعا كالبيض في سلة واحدة، أما مسألة الأرزاق، فلله في خلقه شؤون.
إذن دعونا نستنشق سويا الأنفاس الصادرة من تقليب صفحات كناش الكريدي، عساها تكون منعشة، وبما أن عمليات النصب المتداولة وقتئذ، كانت تتحدث عن مبالغ طائلة، يحبِكُ أبطالها من الأفارقة السود حِيَلا بِسِيناريُوهات مُغرية، تشترط الحصول مثلا على سائل سحري، يعالج الأوراق النقدية الممسوخة، ويعيدها إلى طبيعتها الحقيقية، فإنني لم أعر مديونية الأخت عائشة أدنى اهتمام، على اعتبار أن قيمتها في الأخير، لا تغطي كمّ الحصص الهائل الذي استفدت منه في مجال التواصل وتقاسم التجارب، بلغة أجنبية ـ على قدّ الحال ـ، وفي شكل من أشكال الانفتاح على الآخر بحمولاته الفكرية المختلفة عن ثقافتنا.
ما أن بدأتُ أتأقلم مع صراعات الحياة والتزاماتي المهنية، حتى توقفَتْ ذات أمسية على مقربة من متجري بمدينة تمارة، سيارةُ أجرة زرقاء قادمة من الرباط، ترجّلَتْ منها شابة من أصول إفريقية، وهي تستفسرني، بالموازاة مع صراخ السائق المنبعث من النافذة، إذا ما كنت أنا هو الطيب؟ إلّا أنه ما من شيء لفتَ انتباهي حينها أكثر من عَزيمة الأخت عائشة، التي كلفَتها لأجل أداء 400 درهم مصاريف إضافية عبارة عن 200 درهم، كانت من نصيب صاحب الكُورصة، زائد ما أنفقته من أوروهات، مقابل اتصالاتها من فرنسا، قبل شيوع تطبيقات التواصل الرقمية، وذلك بُغيَةَ إيجاد وسيط يفي بالمهمة، هذا دون الحديث عن إزعاج صديقتها، التي تأدبَت كثيرا، وأبدعت في الاعتذار بالنيابة، وهي تناولني مبلغ الدَّيْن.
انتهت الحكاية، وبَقيَت آثارُها الطيبة مَحفورَةً في الفُؤادِ والذاكرة! وإلى يومنا هذا، ما فتئ مول الحانوت مُحاطا بشتّى أصناف المواد الغذائية، كما تشتهي الأنفس، يُناولك من عقر دكانه، ما تَستَطِيبُه أذواقُك، عن طيب خاطرٍ أو مرغما، ثم يُدَوّنُ “الْحَصِيلَة” في دفتر الديون، دون أن تدفعَ مقابلها فلسا واحدا، رغم أنّهُ الأقربُ إليها منك. فلا تُكسِر خاطرَ نفسٍ، مَنَعَتْ عنها، ما وَهَبَتْكَ أنتَ، خصوصا في ظل الأزمة الراهنة!