سلم المجد
لقد انحرف الرأي العام في تحديد موقفه خلال محطة تاريخية لإثبات مستوى تمدنه وتحضره الحقيقي في الموقف من احتلال قطر شقيق يعترف العالم بسيادته وعلمه، هذا الانحراف الذي قادته أقلام وأحزاب وإعلام يبني أهدافه على معارضة كل ما هو رسمي، ويزكي نفسه بموقفه المؤيد أو المتزعم للمواجهة مع العدو التي تعتبر شرط الزواج أو الطلاق من الجماهير، وهي المعركة التي لا يختلف اثنان على شرعيتها، لكن الاختلاف يتجلى في التوقيت وفي نسبة الفوز المئوية مقابل هامش المخاطرة، وهي المعادلة التي لا مجال للعواطف في صياغتها ولا للصدف من دخل فيها، بل هي معادلة الحكمة والتبصر بحساب ألف حساب وحساب قبل دخولها، باختيار الموقف المناسب للإمكانيات المتاحة سياسيا وماديا، فالمصلحة اليوم ليست لا في تبني المواجهة ولا في الاعتزال، بل هي في توفير الدعم المادي القار والمعنوي للشعب الفلسطيني بالحفاظ على مسافة واحدة من فصائله، مع الحرص على بلوغ هذه المساعدات إلى المواطن الفلسطيني سواء أكان في غزة أم في الضفة أم في المخيمات، وانتظار توفر معطيات جديدة لتحديد أهداف جديدة تناسبها، ولكل مقام مقال.
إن الدعاية الإعلامية المميزة لعدة مشاريع التي توحدت في الركوب على هذه النقطة الشديدة الحساسية، بمباركة من بعض أعمدة الفقه والفكر، جعلت الجميع يفقد الثقة في القطر وفي الأمة ودفعت بالجميع للانسياق خلف الذين تبنوا تلك المواجهة المفبركة، ليقتنصوا عصفورين بحجر واحد دون تحقيق نقطة واحدة في المعركة، عنوان الفرق بينهم وبين الموقف الرسمي للأمة، فالعصفور الأول كان شيطنة أهل الرأي الواقعي والعصفور الثاني كان توجيه قلوب الأمة لتفريق أملها خارج الأسوار، بتلميع الشيعي الذي يحمل سيفا خلف ظهره أطول من سيف الصهاينة، أو الانحناء لتركي يكفيه الكلام بلا فعل رغم أنه يملك أكبر جيش في المنطقة، فالمهم هو اقتلاع الثقة من الأمة الذي يبقى رأسمال النجاح، في أرهب عملية تنويم مغناطيسي عرفتها البشرية.
فكل الذين صُوروا كأبطال لهذه المعركة ثبتت ديكتاتورية أولهم وزيف قومية ثانيهم وتفوق ثالثهم على الصهيونية في خطورة أهدافه ووسائله على الأمة؛ فالدندنة الطويلة على هذا الوتر حيث تقاطعت مصلحة تيارات سياسية معينة مع محتضن سخي في ابتزاز جهات لا نؤيدها في مسارها، لكن شق الصف بسبب الخلاف معها سم قطع ويقطع أوصال الأمة؛ فلا نبي فتح جبهة القتال فوق رؤوس المدنيين، ولا نبي بادر بالقتال قبل التمكين مهما تطلب ذلك من وقت، بل منهم من ترك المواجهة لفشل التربية أو لاستحالة التمكين وانتظر إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، فأوصاه الله بالصبر والصلاة؛ فأين هذه الأمة من التوفر على عدة العصر من غواصة ورادار ودبابة في الوقت الذي تستورد الزي والقبعة والبندقية، فصناعة اليأس المتطورة هاته هي التي بثت اليأس في نفوس الجميع، ليقبل الشباب زرافات على التطرف بوجهيه السني والشيعي، لتنقلب السهام إلى صدر هذه الأمة العليل فقط، فكيف لهذا الشباب أن لا يتحمس للسعي نحو مشعل سحر العقول في الصبا والمراهقة ليحرقها ويكوي الأمة بفحمها الأسود.
ستبقى المعركة الحقيقية هي معركة القضاء على الأمية وتحقيق الاكتفاء الذاتي ثم التصنيع، ليقرر الجيل الذي علينا تهيئ السفينة له ما يليق للمرحلة، فما كادت أن تكتمل دورة التعليم والطب والهندسة لتتلمس الأمة الدورة المقبلة حتى أرجع العداد إلى الصفر، فأين هذه المنابر المرموقة من مصلحة الأمة وأين تلك التيارات التي استثمرت في شيطنة الموقف الرسمي؟ وأين علماء الدولار وضيوف الشاشات من المفكرين؟ أفلا يتفكرون ما لحق بالأمة من ثمار فتنتهم؟ أم أنهم لا يخطئون في ظنهم فلا يحاسبون؟
للمجد سلم تحول قلبه إلى طعم ذكي لتمرير المشاريع الملغومة، هذا السلم الذي تحتاج عتبته إلى الصبر والجلد من أجل الفوز بالمعارك الكبرى والتي قضى في طريقها الغرب عشرات العقود، في الوقت الذي يراد لها أن لا تتجاوز بضع سنوات وبضع خطوات عندنا، وهي كما سبق معركة الأمية والاكتفاء الذاتي ثم التصنيع ليدنو المجد كثمرة دانية من شجرة تنضخ بالحياة، إن كانت حياة للمنادى.