سقوط الأقنعة بين الدين والسياسة
عزيز جندي
في العالم المعاصر بشكل عام والمغرب بشكل خاص وفي الظرفية الحالية بشكل أخص، أصبحنا نعيش عصر الأقنعة بامتياز، أو عصر امتياز الأقنعة وتفوقها، فالمقنعون في كل مكان، يسقط قناع ليحل محله قناع آخر، أما الوجه الحقيقي فلا يكاد يظهر إلا في مرحلة تغيير الأقنعة. وجوه مضطربة ومشوهة الملامح، في مرحلة أشبه بمرحلة العماء أو السراب فلا يستطيع فيها الكثير منا حفظ الملامح الحقيقية، وحتى لو حفظ بعض الأفراد بعض الملامح لتبجح المقنعون بأن الله خلق من الشبه أربعين، ولا يستطيع أن يحاسب العباد إلا رب العباد. إن هؤلاء المقنعين مهما تغيروا ومهما مر عليهم من زمن ومهما أجروا لوجوههم من عمليات تجميل أو تقبيح أو تغيير أو تعديل أو تزييف في عاصمة الأنوار أو في ضواحيها أو أزقتها الهادئة التي يحضنها ظلام الليل الباريسي! لوجدناهم يقولون إن التغير هو سنة الكون، والكون كله في حالة تغير دائم. وأن الدنيا بأسرها تتغير وتتبدل ولا يدوم لها حال، والله وحده سبحانه هو مغير الأحوال لكنه لا يتغير ولا يتبدل من حال إلى حال. ولكن مهما حاول هؤلاء المتبدلون والمتغيرون من ذوي الأقنعة أن يبرروا مواقفهم بالتمسك بسنن الكون المتغيرة، فإنهم يظلون في أعين أصحاب العقول والألباب مفضوحين حتى لو استطاعوا التستر لفترات زمنية طويلة، كما أنهم يستطيعون أن يخدعوا الناس بعض الوقت، لكن لا يستطيعون أن يخدعوهم طول الوقت.
وتتعدد الأقنعة وتتباين ألوانها بعدد يفوق ألوان الطيف السبعة المشهورة، فهناك قناع عقلي يتخفى وراء قناع إيماني مثلما أراد ابن ر شد أن يفعل لبعض الوقت، أو العكس قناع إيماني يتخفى وراء قناع عقلي كما هو الحال مع فيلسوف فرنسا الكبير رينيه ديكارت الملقب بأبي الفلسفة الحديثة، كما نجد صاحب قناع علمي يتخفى وراء قناع إيماني والعكس أيضا. ويأتي أصحاب الأقنعة الراهنة لتتداخل أقنعة الدين بأقنعة السياسة، بحيث يصبح هذا هو الخطاب السائد، خطاب الأقنعة وغياب المبادئ خوفا على الكراسي والمكاسب وحفاظا على النصيب من الكعكة. ذلك أنه يمكننا القول بأنه بإمكان المواطن العادي والسياسي الساذج والباحث المدقق الذي يلتزم بقواعد النقد الصحيح أن يجعل أقنعة الإيديولوجيا اللاهوتية تواجه نفسها أخيرا وهي عارية من كل أساليبها المراوغة، التي يعتمدها هؤلاء المقنعون الطامحون والطامعون في السيطرة على مقاليد الحكم في البلاد.
هذا الاتجاه المقنع الذي يقدم نفسه على أنه المخلص الذي جاء ليملأ الدنيا عدلا بعدما امتلأت جورا، يرتدي هذا القناع في عالم السياسة باسم الدين، ليبدو في «..ثياب الواعظين» يخدعون العامة بهذا القناع ويستحوذون على الأصوات الكثيرة من الأميين والمهمشين والعجائز ليفرضوا هيمنتهم ويسيحون في الأرض فسادا، لكن سرعان ما تتساقط هذه الأقنعة تباعا وتوجه إليها الضربات المتتالية التي تكشف عن تضارب الوجوه الحقيقية مع الأقنعة. تضارب يدل على اغتراب ذاتي سببه تاريخ، هو تاريخ معركة ضد اللهو وضد الهزل وضد الترويح عن النفس، فقد كافح الإسلاميون المحافظون ضد من كانوا يرغبون في عرض مظاهر البهجة علنا. فقد كان اللهو والهزل والخفة والمرح والضحك تعتبر جميعها أمثلة على الانحلال الأخلاقي والتهاون والفساد، في حين كانت التسلية عموما تطرح باعتبارها «قيمة مضادة» لثقافة دينية ذات بطانة سياسية تعد المورد والرأسمال الرئيسي لهذه الحركات. فلماذا أصر الإسلاميون على التمسك بالقيم المتزمتة رغم كلفتها السياسية؟ ماذا يكمن وراء خوفهم من اللهو؟ يقول الرأي السائد إن العداء للهو والمتعة متجذر في قواعد الأخلاق الإسلامية الصارمة. واستنادا إلى هذه الرؤية، ينطوي الإسلام على «عالم لا تتمتع فيه الحياة البشرية بنفس القيمة التي تتمتع بها في الغرب، عالم تعتبر فيه الحرية والديمقراطية والانفتاح والإبداع أمورا غريبة»، في معرض التعليق على احتفاليات الكرنفالات الأوربية في أواخر العصور الوسطى، يصف ميخائيل باختين (Bakhtin Mikhail) اللهو الجماعي بأنه «تمرد ضد السلطة بجميع أشكالها يتبع طقوسا معينة». ومن هنا ألا يمكن أن نعتبر أن سقوط بعض أقنعة قياديي العدالة ما هو إلا تمرد على مرجعية الحزب التراثوية التي تجعل من اللهو خطا أحمر؟
الروايات التي تحكي عن انغماس الإسلاميين سرا في ممارسة ما يحرمه مذهبهم، تشير إلى أن فرض هذا النظام الأخلاقي إنما هو وسيلة للتحكم الاجتماعي والحفاظ على المناصب والمكاسب. وباختصار، فإن الموضوع المهم بالنسبة إلى الإسلامويين ليس مجرد خوفهم من انصراف الناس عن الله، بل خوفهم من انصراف وانعتاق الناس منهم. وهكذا يوما بعد يوم يبدو القناع باهتا يفقد كثيرا من بريقه ولمعانه، فقد أصبح هشا يتطلب من الأمة كلها أن تمد يدها وتكشف هذا القناع لتنجلي حقيقة هذا التيار، الذي يريد أن يسيطر على مقاليد الحكم في البلاد بقناع ديني، لأن إمكانياته السياسية ضعيفة جدا لا تقوى أن تقوم منتصبة بدون هذا القناع. فهل ستشهد الأيام القليلة القادمة سقوط ما تبقى من أقنعة، ويتم إنقاذ مغربنا من براثن هؤلاء المقنعين؟