سؤال الإرادة السياسية
يفرض علينا التراجع الأخير في التصنيف العالمي حول الفساد، والذي كان أول أمس مثار «بوليميك» سياسي بالبرلمان، الكثير من التحديات حول نجاعة الاختيار الذي اختارته بلادنا في محاربة الفساد الذي كان العنوان الأكبر للمرحلة السياسية التي نعيشها والتي توجت بوضع دستور يعد بمحاربة داء استشرى في القطاعين العام والخاص، بل وصل بنا الأمر إلى تشكيل هيئة دستورية لمحاربة الرشوة والفساد ودسترة المجلس الأعلى للحسابات وتم وضع خطة وطنية لمحاربة الرشوة للأسف يوجد واضعها وراء القضبان بتهم ثقيلة مرتبطة بفساد التدبير العمومي.
والحقيقة أن التقرير الأخير حول مدركات الفساد لم يتجن علينا، ببساطة لأن أخطبوط الفاسدين وأصحاب الريع والرشوة وتضارب المصالح والملاذات الضريبية لا يزال يشكل لوبيا قويا كما لا تزال الإدارات العمومية في البلاد تشكو هذه المعضلة التي نخسر سنوياً بسببها ما يفوق ألف مليار سنتيم، حسب أرقام رسمية.
إن محاربة الفساد والرشوة ليست خطابا نردده صباح مساء، وليست عددا من المؤسسات التي ظلت معطلة منذ إحداثها مثل الهيئة الوطنية لمحاربة الرشوة، بل هي إرادة سياسية جريئة وحقيقية. صحيح أن هناك بوادر تململ في ضرب بعض مظاهر الفساد في كل المؤسسات، حتى تلك التي كانت إلى الأمس القريب محصنة من سيف المحاسبة، لكن ذلك لا يتجاوز منطق الحملة الظرفية ولم يبلغ بعد درجة الاختيار المستدام.
نعم، الجميع يشتكي من الفساد والكل يدعي شرف محاربته، بيد أن محاربته ليست قضية دولة فقط، وإن كانت هي المسؤولة الأولى بما تتوفر عليه من سلطة وهيئات ردعية، لكنها، أيضا، قضية برلمان قادر، كمؤسسة دستورية، على اتخاذ كل ما يلزم لضرب أعضائه الفاسدين دون محاباة أو قبلية سياسية، هي قضية أحزاب سياسية من المفروض ألا تهدي الشأن العام على طبق من ذهب للفاسدين، ونحن نرى ونسمع ما يجري بجماعاتنا التي أصبحت تزكم الأنوف بسبب روائح الفساد، هي، كذلك، قضية مجتمع مدني وإعلام ومسجد ومدرسة لخلق حالة عامة من اليقظة والتعبئة ضد الفساد ورموزه.
لذلك لا نريد أن نبقى في معركة شراء الوقت مع الفساد، نعتقل واحدا هنا وآخر هناك، مبتعدين عن الإرادة السياسية اللازمة التي ستؤمن لنا بناء جدار عال في مواجهة «تسونامي» الرشوة والريع والتلاعب بالصفقات وتضارب المصالح، وتحقق لنا إصلاحا بنيويا في كل مرافق الحياة العامة. حينها سنمكن المجلس الأعلى للحسابات والهيئة الوطنية للنزاهة ولجان تقصي الحقائق والقضاء والأمن، وكل مؤسساتنا الرقابية الأخرى، من أخذ دورها والقيام به، وآنذاك سيعرف الوزير والقاضي والمدير ورجل الأمن والموظف العمومي والمنتخب المحلي، أنهم تحت سيف القانون وعيون حراسه، وأن الحصانة الحزبية أو اللوبي المهني أو النفوذ المؤسساتي لن تحمي من يخطئ في مواجهة المحاسبة والمساءلة.