
خالد فتحي
يبدو أن دور الرئيس زيلينسكي في الحرب الروسية الأوكرانية قد شارف على نهايته. فمنذ صعود ترامب إلى السلطة، وهو لا يتوانى عن إرسال إشارات واضحة بأنه لا يستظرف الرجل ولا يطيقه. يظهر التنافر بين الرجلين في كل شيء، بما في ذلك اختلاف شكلهما، وكذا شذوذ نظراتهما لبعضهما البعض؛ ترامب ينظر لزيلينسكي باستعلاء وازدراء، وهذا الأخير يرمقه دائما بريبة وتوجس. الآن، وبعد استبعاد أوكرانيا من مشاورات الرياض، سيفهم – وهو الكوميدي في سالف الأيام- أنه كان محض مشارك مغبون في كاميرا خفية دامت كل ولاية بايدن. لم يكن البتة بطلا، بل كومبارسا أدخلوا في وعيه أنه يمثل دور البطولة. وقد تماهى مع الدور الذي أسند إليه، حتى أنه ورغم اكتشافه أن بوتين وترامب هما البطلان الحقيقيان والحصريان، وتعرضه لغضب وسخرية أقوى رجل في العالم، لم يستطع الخروج من دوره، وقرر الرد عليه، والتراشق معه كلاميا.
هناك تباين كبير في مقاربة الرجلين لهذه الحرب التي تؤرق أوروبا، فترامب الذي أمسك بيديه دفة البيت الأبيض ينظر إليها كورقة يمكن أن تسعفه في ضبط العالم وفرض النظام الدولي الذي «ستتسيده» أمريكا العظمى التي يحلم بها، ولذلك حرص على أن يعدد إعلاميا زلات زيلينسكي الذي يستحق أن يحسب منهزما. فكونه أحد عناصر جوقة بايدن كاف أن يحكم عليه بالانسحاب من المشهد. ثم إن حرب أوكرانيا ليست بقضية ترامب، فليس هو من اختار الصراع مع روسيا. تركيزه كان على مواجهة الصين، وزيلينسكي يعطله، ولذلك أعمل ولايته كرئيس أمريكي على الناتو، وقرر أن يعاقب الرئيس الأوكراني الذي لجأ عن سذاجة، أو بسبب وطنية زائدة، أو عمى «ديكتاتوري» لخوض نزال غير محسوب العواقب ضد روسيا، دون اعتبار لإكراهات الجغرافيا السياسية التي تفرض عليه أن لا ينسى أنها الوريثة الشرعية للاتحاد السوفياتي حاضنهما المشترك، وأن محاولة جلب الناتو لحدودها هي حرب عليها. لقد كان البادئ في الهجوم، والبادئ أظلم، وبالتالي عليه أن يتحمل مسؤولية خطئه بالتواري للخلف، وإلا ستضيع كل بلاده.
أعلن ترامب إذن من خلال تصريحاته أن رأس زيلينسكي أينع وحان قطافه. اتهمه بأنه غير كفء، وديكتاتور يرفض إجراء انتخابات لتجديد شرعيته، وأنه فوت على نفسه وشعبه طيلة 3 سنوات فرصة الجلوس إلى طاولة المفاوضات، فلماذا يتحرق ويريد ذلك الآن؟
يمسك ترامب بزمام المبادرة في هذا الملف، فقد هيأ العالم منذ حملته الانتخابية لتقبل ما سيقترحه بخصوص هذه الحرب. لا يهمه أن روسيا تهدد أمن أوروبا، فهو يتبنى القيم نفسها مع بوتين، ولذلك ليس له أن يتركه للصين. سينتزعه منها، وسيرسمه منتصرا، على رغم أنف ماكرون وشولتز. وهذا في منظوره قرض يمنحه إياه. فهو أيضا يريد أن يفترس كندا وغرينلاند وقناة بنما. ثم ما الفرق بين روسيا وبين دول الاتحاد الأوروبي، التي تجلس تحت المظلة الأمريكية؟ إنها أقرب إليه الآن منها جميعها.
ينظر ترامب كذلك، وهو يصدر حكم الإعدام على زيلينسكي إلى الحرب الروسية الأوكرانية كفرصة اقتصادية لأمريكا التي تنشد إحياء عظمتها. وبهذا الصنيع الذي يسديه لبوتين، ستكون الشركات الأمريكية أول من سيطرق أبواب موسكو، بعد رفع العقوبات. وهو لا يكتفي بهذا، فيطالب زيلينسكي برد المبالغ التي صرفتها الولايات المتحدة الأمريكية على بلاده، وفوقها الفوائد المستحقة.. فهو في حل من كل وعود بايدن، ويحق له أن يتصرف مثل رئيس مقاولة ويحد من الخسائر ويسترجع أموال الشعب الأمريكي، التي بددها بايدن على «متسول محترف».
فهل كان زيلينسكي ساذجا؟ ربما. فهو من سعى إلى الانضمام إلى الناتو، دون أن ينتبه إلى أن أوكرانيا حزام أمان لروسيا، وإلى أنه من المستحيل ربح الحرب ضدها.
الآن، وبعدما صار يتيما من جهة بايدن، لم تبق له سوى أوروبا العجوز، وتحديدا فرنسا لتكفله، لكنها لن تستعمله سوى للضغط على ترامب، لعلها تتحصل لأوروبا على نصيب من كعكة إعمار أوكرانيا.
سيشتد الخناق في مقبل الأيام على زيلينسكي وتضيق به أرض الغرب. طريقه مسدود، وسماؤه ممطرة حالكة. إذ سيستولي أشباه ترامب على السلطة بدول الاتحاد الأوروبي، وأول ما سيسقط بأيديهم ألمانيا «العتيدة»، بل إن الشعوب الأوروبية نفسها قد عيل صبرها، وقرفت جميعها من طلعة زيلينسكي ومن تمويل حرب أوكرانيا. لقد خدعت وتمت خيانتها من قادتها ومن أمريكا. لقد جرها رئيس أمريكي إلى الحرب، وها هو خلفه يتخلى عنها، دون أن يلقي بالا لها ولشظف العيش الذي صارت تعانيه. ألم تكن الأولى بالارتماء في حضن بوتين قبل الولايات المتحدة؟ لقد انكشفت عورة الاتحاد الأوروبي، فهو في وضع حرج، بل في خضم فضيحة مدوية. إنه لا يملك أن يعارض ترامب، ولا أن يواصل الحرب لاعتماده أمنيا وعسكريا على أمريكا، ولا يملك حتى أن يتخلى عن زيلينسكي دون أن يجازف بانهياره وتفككه كاتحاد. فأين المخرج؟ وأين حفظ ماء الوجه؟
إنه أمام تضارب المصالح بين دول هذا الاتحاد الهجين، واختلاف الأهداف بينها، وعجزها المريع عن امتلاك قرارها، قد تنبذ مجبرة زيلينسكي الذي سيبقى مثل رئيس «ضليل» يبحث عن الدعم دون جدوى، إلى أن يقضي نحبه بانتخابات عاجلة. فأعواد الثقاب التي رماه بها ترامب مشتعلة ستحرقه لا محالة.
لكني مع ذلك سأظل أعتقد أن زلينسكي لم يكن لا ساذجا ولا ديكتاتورا. بوتين في العقيدة الغربية أحق منه بهذا الوصف الأخير. ذنبه الآن أن المنهزم دائما تلصق به أقذع النعوت، حتى يتم تبرير هزيمته للتاريخ.. فهو رئيس تصرف بطيش ونزق. رئيس قامر بمصلحة شعبه وخسر، وقد كان في غنى عن هذه المغامرة. رئيس وصل بالهزل إلى الحكم، فتبا للديمقراطية التي مزاجها شعبوية، وسحقا لغباء بعض الشعوب. دعونا مع ذلك نقول إنه رئيس سيئ الحظ، جرت رياحه بغير ما اشتهته سفنه. فمن كان من قادة الناتو وأوروبا يتوقع أن يعود ترامب إلى البيت الأبيض؟ لا أحد بتاتا.
إنه اذا كانت العبرة بالنهايات، فزيلينسكي حول أوكرانيا إلى حصان طروادة للغرب، طمعا في دخول حلف الناتو، لكنه كما يقول المثل لم يطل عنب اليمن ولا بلح الشام. لم يحفظ جوار روسيا، ولا هو انضم إلى الناتو. قد يعوضونه بالدخول إلى الاتحاد الأوروبي، ولكن حتى هذه المنحة قد تصبح عزيزة المنال، إما لأن الاتحاد نفسه سيتفكك بسببه، وإما لأن الرئيس الذي سيخلفه سيستوعب الدرس جيدا، ولن يسعى لا لعضوية الناتو ولا للانضمام إلى الاتحاد. هذا إن بقي هذا الاتحاد.
نافذة:
زلينسكي لم يكن لا ساذجا ولا ديكتاتورا بوتين في العقيدة الغربية أحق منه بهذا الوصف الأخير ذنبه الآن أن المنهزم دائما تلصق به أقذع النعوت حتى يتم تبرير هزيمته للتاريخ