شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

رواه البخاري..

 

مقالات ذات صلة

 

يونس جنوحي

تمر إحدى عشرة سنة هذا العام على نشر «الأخبار» سلسلة حلقات مطولة مع ضابط المخابرات، أحمد البخاري.

مع بداية رمضان من سنة 2014، نُشرت أولى الحلقات واستمرت طوال فترة الصيف. أول أمس الأحد، ونحن على أبواب استقبال رمضان، توفي البخاري الذي شغل الرأي العام بإثارته موضوع اختفاء المهدي بن بركة وتقديمه رواية «إذابة» جثة المهدي في الأسيد، وإعلانه استعداده التعاون مع الحقوقيين لتحديد مصير لوائح ضحايا الاختفاء القسري في سنوات الرصاص.

وما إن نُشرت الحلقة الأولى حتى انهالت علينا الاتصالات والرسائل البريدية التي تطعن في الرجل ولم تكتف بتكذيب بعض ما يقوله، وإنما ذهبت حد تكذيب اشتغاله في الأمن أصلا.. بل إن أحدهم اتصل مؤكدا أن أحمد البخاري لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وإنما كان حارس بوابة من بوابات بنايات الأجهزة السرية. لكن أغرب اتصال كان من رجل يؤكد أن أحمد البخاري توفي سنة 2004، وأنه ذهب بنفسه إلى العزاء وواسى أرملة الراحل بنفسه. وفي المساء ذاته، كنتُ في منزل البخاري لاستكمال تسجيل سلسلة الحوار. وفي غمرة الحديث، ذكر ثلاثة أسماء أجنبية لضباط من وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA، كانوا قد حلوا بالمغرب لتدريب ضباط الكاب 1 بداية الستينيات، عندما جرى تأسيس الجهاز على أنقاض البوليس السياسي الذي انطلق منذ 1956. ولأن البخاري لم يكن يتوفر على صورهم، فقد قال إنهم كانوا يشبهون ثلاثة ممثلين أمريكيين، كانوا من مشاهير السينما في ذلك الوقت. ودون أي تفكير مسبق، مررتُ ورقة بيضاء إلى أحمد البخاري، رحمه الله، وطلبتُ منه أن يكتب لي أسماء الممثلين الأمريكيين الثلاثة للبحث عن صورهم. وكتب البخاري الأسماء باللغة الفرنسية، بحروف بارزة وخط رفيع، ودفع إليّ الورقة بهدوء، وقال لي بشكل مباشر: «إذن قالوا لك إنني لا أستطيع القراءة ولا الكتابة، وأن ما أقوله لك أعطي لي فقط».

وفي مناسبة أخرى، كانت لديه بعض الوثائق التي يود استثمارها في الحوار، وشغّل حاسوبه أمامي، بحكم أننا كنا جالسين في مكتبه، وأرسل صور الوثائق عبر البريد الإلكتروني. وهذه عملية يستحيل أن يقوم بها إنسان لا يعرف القراءة ولا الكتابة.

يمكن الاختلاف مع أحمد البخاري في كل القضايا السياسية التي أثارها، بداية من تأسيس الأمن الوطني سنة 1956، مرورا بقصص الاختطافات واختفاء المعارضين السياسيين وتعذيبهم، وصولا إلى تأسيس الكاب 1 والاشتغال تحت إشراف الجنرال أوفقير والعشعاشي والكولونيل أحمد الدليمي، لكن الذهاب إلى تسفيه روايته للأحداث، خصوصا وأنه كان يدلي بالمعطيات مقرونة بالتواريخ والأماكن، فقط لأنه كان يدلي بمعلومات ضايقت الكثيرين، يبقى أمرا لا يستقيم، خصوصا أن كلامه يؤخذ منه ويُرد بطبيعة الحال.

وقد تسببت الحلقات التي نُشرت معه في إغضابه أكثر من مرة، لكنه عاد ليتقبل بصدر رحب ما سُجل معه على امتداد ما يقارب عشر ساعات كاملة.. خصوصا عندما ذكر أنه تكلف، قبل اختفاء المهدي بن بركة بمدة، بالبحث عن شركة مناسبة في الدار البيضاء، لاستيراد معدات معدنية خاصة، استُعملت لاحقا في بناء الآلة التي كانت تذوب فيها الجثث باستعمال الأسيد في قلب دار المقري. عندما نشرنا هذه الجزئية على لسانه، رحمه الله، انزعج في البداية، ثم عاد في لحظة صفاء، بلباقة «المسفيويين» ولهجته المميزة، إلى طبيعته. التاريخ يبقى تاريخا في النهاية!

بدايات البخاري كانت في مدينة آسفي نهاية الثلاثينيات، واشتغل في حرفة الأسرة، بيع وإصلاح آلات الميزان، وبدا واضحا أن «الصروفة» أثرت كثيرا في حياته، فقد كان يزن جيدا ما ينطق به، ويرتب طاولته جيدا ولا يترك أي مجال للفوضى أو «الميلان».. حتى مواعده كانت مضبوطة جدا.

عندما كنا نعد للحوار، مد إلي أحمد البخاري صورة بالأبيض والأسود، لرجل قال لي إنه قاتل عباس المساعدي. وحكى لي أنه يذكر اسمه وصورته جيدا، لكن الرجل اختفى من سلك الأمن منذ أن نفّذ عملية القتل. وبدل أن يستمر في الاختفاء ما تبقى من حياته، زغبه الله سنة 2003 ونشر مقالا في صحيفة مغربية، مرفقا بصورته لتلك الفترة من الخمسينيات، يتحدث فيه عن المقاومة. فعرفه البخاري. اتُهم البخاري كثيرا قيد حياته بأنه قصف منازل الكثيرين بالحجارة رغم أنه كان أيضا ضابطا في الأجهزة السرية. لكن بخصوص مقتل عباس المساعدي، تراجع في الأخير عندما علم أن للرجل أبناء وأحفادا، وأن إحياء الموضوع لن يُنصف ميتا بقدر ما سيُزعج الأحياء. بقيت الصورة في الخزانة ورحل صاحبها قبل أن يرحل البخاري. رحم الله الجميع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى