شوف تشوف

الرأي

رهان على حصان أعرج

مرة أخرى ستكون العلاقات المغربية ـ الجزائرية على المحك. وعلى رؤوس الأشهاد سيردد الوفد الجزائري إلى أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة أطروحته المتهالكة، إلا أن ما هو جوهري في أي مواجهة دبلوماسية قائمة ومحتملة بين المغرب والجزائر، أن هذه الأخيرة تفضح نفسها ومزاعمها ونواياها.
لولا أن الجزائر في معاكستها للشرعية الوطنية والدولية، تواصل العناد في الدفاع عن الطرح الانفصالي في الأمم المتحدة، أو على صعيد احتضان حركة المعارضة المسلحة في مخيمات تيندوف الواقعة تحت نفوذها الترابي، لما أعار العالم أي اهتمام لقضية شبه منسية، تتمحور حول خلافات ثنائية وصلت إلى خط اللاعودة. وعبر هذا المسار لم يعد هناك غموض يلف الموقف الجزائري، ذلك أن آليات دبلوماسية البلد المجاور تقول إن بلادها ليست طرفا، وفي ذات الوقت تزايد على نفسها، من خلال تبني الفكرة الانفصالية قلبا وقالبا.
لئن كان الخطاب الجزائري بلغ هذا الحد، وهي تزعم أنها ليست طرفا ولا مطامع لها، فكيف سيكون الحال لو أزاحت القناع وأعلنت صراحة أنها الطرف المعني الثاني بعد المغرب صاحب الحقوق القانونية والتاريخية المشروعة؟ الأكيد أنها فعلت أقصى ما توصل إليه عقلها في المناورة والمعاكسة ومحاولات النيل من سيادة المغرب الراسخة، ولن تفاجئ راصدي تطورات الملف أمام الدورة الحالية للأمم المتحدة، لأنها لا تفتح فمها المفطوم إلا على كلمة الصحراء.
إقليميا هناك العديد من التحديات المفروضة على بلدان المنطقة، بما فيها الوضع الجامد للاتحاد المغاربي، والأزمة الليبية الملتهبة، وتغلغل المد الإرهابي وتعاظم التهديدات الأمنية. وكلها قضايا مهمشة في الأجندة الملحة للجزائر.
عربيا هناك المأساة السورية واستحواذ ما يعرف بتنظيم «داعش» على جزء أكبر من أراضي بلاد الرافدين، عدا الوضع المتدهور بحثا عن تكريس الشرعية في اليمن، من دون استثناء ظاهرة اللاجئين العرب، واستمرار العربدة الاسرائيلية في المسجد الأقصى. أما على الصعيد الأفريقي فالأزمات برسم غياب الاستقرار وتزايد حدة الانفلات الأمني وقضايا الانتقال الديمقراطي تنخر جسد القارة.
كل هذه القضايا مغيبة عن الأجندة الجزائرية، ليس الآن فقط، جراء معاناة الدولة والرئيس من فراغ دستوري ومقعد شبه شاغر، ولكن منذ اندلاع التوتر الإقليمي في المنطقة انشغلت هذه الأخيرة بقضية واحدة، تتجلى في العقدة المغربية، أكان على صعيد استعادة المغرب لأجزائه المغتصبة جنوبا، أو على مستوى ما تحظى به التجربة المغربية من تقدير وتطور وتفاعل مع محيطها، من دون معاداة أي طرف.
إنها حالة فريدة في الإصرار على اختصار السياسات الجزائرية في قضية واحدة، تصر هي نفسها بالقول لا الفعل أنها ليست طرفا فيها، وما من شك في أن دارسي التجارب السياسية لن يعثروا على نموذج مشابه لهذا العناد العبثي. بل إن مجرد زيارة صداقة وعمل كتلك التي قام بها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى المغرب قُوبلت جزائريا بالامتعاض، وذهبت أطراف جزائرية إلى ربطها بمحور العلاقات المغربية ـ الجزائرية، مع أن أحدا لم يسأل لماذا ذهب الرئيس الفرنسي هولاند إلى الجزائر، مادام الأمر يخص ممارسات سيادية لا دخل للآخرين بها.
عقدة المغرب في الخيال السياسي الجزائري استحكمت بما يجعلها تربط أي مشكل داخلي أو أزمة اقتصادية خانقة بوجود الجار المغربي، ولم تسأل نفسها يوما لماذا استنزفت إمكانياتها ومواردها وطاقتها في افتعال قضية خاسرة، ولم تكلف ضميرها عناء السؤال حول ما ربحته وخسرته من ممارسات أهدرت المزيد من الجهد والوقت في تبني خيار انفصالي محكوم عليه بالتلاشي والاندثار، حتى إذا انتفض سكانها في مناطق شرقية وجنوبية مطالبين بأقل ما تريد منحه للمخيمات الانفصالية، انبرت لاحتساب غنيمة الرهان على حصان أعرج.
في كل فترة يشتد فيها طوق الأزمة على عنق الجزائر، تهرب إلى طلب مهلة لترتيب أوضاعها الداخلية، وكما هي العادة، تخلف كل التعهدات والاستحقاقات، متجاهلة أن الأصل في كثير من المشاكل التي تعانيها، يرتبط بسوء تدبير الملفات الإقليمية. فليس هناك دولة تحترم نفسها تقوم بإغلاق حدودها من طرف واحد مع بلد مجاور، في وقت ألغت فيه تطورات العولمة ومستجدات الانفتاح أنواع الحواجز بين الدول، وليس هناك دولة ذات رؤية مستقبلية تعمل جاهدة وبكل الوسائل من أجل إقبار المشروع الكبير للبناء المغاربي في عصر التكتلات والكيانات الاقتصادية والبشرية المتلاحمة، بل ليس هناك من يصر على استمرار دعم الهواجس الانفصالية، في وقت أبانت فيه المعطيات أنها أخطر ما يهدد الكيان العربي في وجوده واستقراره.
سياسة الهروب إلى الأمام لا تخفي حقيقة أن الجزائر تجتاز أزمة حقيقية، في غياب أي مشروع مجتمعي للنهوض بأوضاع البلاد، وفي غضون استمرار أوهام الزعامة الإقليمية، ولن يكون للخطاب الجزائري ذي البعد الانفلاتي المتوتر أي مفعول، لأن الشعب الجزائري تحديدا سئم من سياسة ترحيل مشاكله الحقيقية. كما أن تطورات قضية الصحراء لن تعود إلى المربع الذي ترغب فيه الجزائر. وإنه لأمر محير فعلا ألا تكون الدولة الجزائرية استوعبت الدروس.
كان أحد الدبلوماسيين اللامعين يصف الموقف بالقول: ربح المغرب صحراءه وربحت الجزائر بوليساريو. ويا لها من صورة معبرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى