شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

رحلة القلب السليم

 

 

 

بقلم: خالص جلبي

 

هذه الحياة الرائعة ونورها البهيج ومتعتها بدون حدود، هذا الوجود الذي أكرمنا الله به؛ كيف يمكن لمشاعر الإنسان فيه أن تصل إلى هذا القدر من الكآبة والإحباط واليأس، إلى درجة إنهاء الحياة ذاتها؟  

كنت في ألمانيا أتعجب من التناقض الرهيب بين الرفاهية والوجوه الكالحة، بين السيارات الفخمة والقسمات الجامدة، بين الفرش الوثير وعبوس الوجه، بين ورد ذي منظر بهيج، ولكن بدون رائحة، بين بشر يعملون بدون ابتسامة عذبة وضحكة على السجية، بين نظام دقيق ونفوس بائسة.

كان ظهر يوم الجمعة والمشير إلى قرب انتهاء دوام الأسبوع رائعا، حيث يجرعون الأنواع المنوعة من الخمور فتحمر وجوههم وأعناقهم، ويلين مزاجهم، وتنفرد أساريرهم ووجوههم، وتبدأ الملامح الإنسانية المخبأة في الأعماق بالظهور والطفو على عالم الحياة والإنس. أما يوم الأحد، وخاصة بعد الظهر، فكان أسود كئيبا مقيتا، حتى عرف بمتلازمة (1) يوم الأحد. كنت أتعجب من هذا ولا أعرف سره، وكنت أتساءل: إذا كانوا يبدعون في الحياة ويحبون الدقة في العمل، والانتظام في الوقت، فما هو الإشكال طالما سوف يستقبلون يوم الاثنين يوم العمل الذي هو مصدر رزقهم واقتصادهم، ووجودهم ورفاههم؟

كان السر أعمق، واللغز أكبر…..

كما أن البكتيريا هي الوحدة العضوية لنقل المرض، كذلك فإن الفكرة هي الوحدة النفسية لنقل المرض الروحي. إنني أعترف بأنني بدأت أصاب بالعدوى في سنوات مكثي الأخيرة في ألمانيا، فكنت أشعر برتابة وثقل وبؤس نهاية يوم الأحد، هذا الشعور لم أتخلص منه إلا حين مغادرتي البيئة الألمانية.

إن متلازمة يوم الأحد لم تكن في الواقع لأنهم سوف يستقبلون يوم الاثنين، يوم العمل والواجب الثقيل… لا، بل كان الموضوع أعمق من هذا! إن التوقف عن العمل هو بكلمة ثانية توقف النفس عن الانشغال الخارجي والتعامل معه، للرجوع إلى الذات. إن يوم العطلة هو يوم مواجهة النفس، هو الانكفاء الداخلي والاعتكاف، هو اكتشاف عالم الذات، وكان الإنسان الألماني يشعر بالألم العظيم حين يواجه عالم الذات الفقير الخاوي الهزيل، ذلك العالم الذي يشبه الشجرة المفرغة الداخل، كان يستشعر أن اللهو الخارجي للنفس قد توقف. هذه المواجهة المدمرة للذات كانت محطة العذاب ونقطة البؤس والجحيم. وانتبه إلى هذه الأزمة الروحية قديما الفيلسوف الفرنسي (باسكال)، فكتب يقول في كتابه (الخواطر): «كلما حاولت البحث في أفعال الإنسان المختلفة، وجدت أن شقاء الناس كله راجع إلى أمر واحد هو عجزهم عن الاعتكاف، ومن هنا جاء ولع الناس بالضوضاء والجلبة، ومن هنا كان السجن عذابا مريعا ولذة الوحدة أمرا يستعصي فهمه. في الإنسان غريزة خفية تحمله على اللهو والانشغال في الخارج، مصدرها شعور مرير ببؤسه المتصل» (2). وعلماء النفس عندهم يعرفون هذه الظاهرة جيدا، ويشعرون أنها تعبير خطير عن مرض حضاري يهدد بنيته الأساسية، إنها بدء تيبس مفاصل الحضارة، وتصلب شرايينها وتخشبها، بكلمة أخرى بداية النهاية، وأول المطر، وفاتحة الطوفان، وانطلاق تفاعل الانحطاط. هذا ما انتبه إليه فلاسفة كثيرون ومؤرخون وسياسيون سطروا لهذه الظاهرة، كما هو الحال مع الفيلسوف الألماني (أوسفالد شبينغلر) الذي وضع سفره الضخم (أفول الغرب) (3). والمؤرخ الأمريكي (باول كينيدي) في كتابه (صعود وسقوط القوى العظمى) (4) أو السياسي الفرنسي (جاك أتالييه) في كتابه (آفاق المستقبل) (5) وشهد شاهد من أهلها.

إذا كانت الكائنات ومنها الإنسان قد اختزلت في الجينات، فإن الكون أيضا قد اختزل في النفس البشرية، وأشار إلى هذه الفكرة الفيلسوف الصوفي، الغزالي، قديما في كتابه (إحياء علوم الدين) (6)، وبذا وضع القرآن يده على مفتاح تغيير العالم من خلال تغيير ما بالنفوس (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

هذا الحقل هو الذي يجب أن يتم فيه البحث والسبر والحفر، لأن كنز السعادة مدفون داخله، مخبأ في أعماقه. إن الرحلة باتجاه (القلب السليم) و(النفس المطمئنة) تبدأ من هنا. إن السعادة هي حالة ووضع للنفس الإنسانية عندما تصل إلى مرحلة النفس المطمئنة، كما أنها نشاط القلب الذي لا يعاني من العلل، وهو ما وصف القرآن به إبراهيم (إذ جاء ربه بقلب سليم).

الرحلة الإبراهيمية من (القلب السقيم) إلى (القلب السليم) هي رحلة الخلاص، كي يصبح الإنسان مرشحا للدخول إلى الجنة قبل دخولها، فهناك جنة خاصة في الأرض يشعر بها الصالحون، قبل أن يدخلوا جنة الخلد، وهي من المبشرات على الاقتراب من نهاية الرحلة. هذه الحالة النفسية، هذا الهدوء والتجلي الروحي، هذا الفيض من السعادة والحبور، أشار إليه كل من ولج هذا العالم وكان شعورهم غريبا وصفوه بأنها لحظات كانت تأتي في الأول لفترة قصيرة وبشكل متباعد، فيشعروا أنهم دخلوا عالما آخر يفيض بالسعادة، سرعان ما ينحسر عنهم، ثم تقاربت الفترات وازدادت مدتها حتى دخلوا هذا العالم بالكامل.

 

 

المراجع:

  1. المتلازمة syndrom هي مجموعة من العلامات الطبية السريرية، التي تشكل صورة واضحة واسمة لمرض بعينه.
  2. مقولة (باسكال) راجع كتاب باسكال سلسلة نوابغ الفكر الغربي-بقلم الدكتور نجيب بلدي- ص: (192-190).
  3. كتاب أوسفالد شبينغلر- سقوط الحضارة- ترجمة أحمد الشيباني، راجع الجزء الأول في تفسيره لظاهرة الاستعمار الغربي- الفقرة (13) ص (97): أقول إن الاستعمار هو الرمز المميز لاحتضار المدنية الغربية وموتها. في هذا الشكل الظاهري للاستعمار قد بت الآن بمصير الغرب بتاً لا عودة عنه أو تعديل.
  4. كتاب باول كينيدي- فيلسوف ومؤرخ أمريكي يتنبأ في كتابه المشهور (صعود وسقوط القوى العظمى) بنهاية أمريكا، وتقوم تحليلاته على دراسة كل القوى العظمى التي برزت خلال القرون الخمسة الفارطة، ومنها القوة العثمانية. وصدر له من قريب كتاب هام عن (التحضير للقرن الواحد والعشرين).
  5. جاك أتالييه يعتبر من أقرب السياسيين ذوي الأدمغة النابهة الذين كان يستشيرهم الرئيس الفرنسي الأسبق ميتران، وكتابه (آفاق المستقبل) مثير جدا، ويتنبأ فيه بانحسار قوة الولايات المتحدة الأمريكية، وبروز قوى العرق الأصفر، أي دول الشرق الأقصى، وخاصة اليابان.
  6. كتاب إحياء علوم الدين -الجزء الثالث- راجع فصل بيان مجامع أوصاف القلب وأمثلته، ص: 20.

 

 

 

++++

 

نافذة:

بدأت أصاب بالعدوى في سنوات مكثي الأخيرة بألمانيا فكنت أشعر برتابة وثقل وبؤس نهاية يوم الأحد وهذا الشعور لم أتخلص منه إلا حين مغادرتي البيئة الألمانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى