
قام الوزير المغربي محمد الغساني برحلة إلى إسبانيا دامت ثمانية أشهر أثمرت في النهاية كتابه المعروف “رحلة الوزير في افتكاك الأسير”، وذلك بأمر من السلطان مولاي إسماعيل الذي أوفده سفيرا ومبعوثا إلى ملك إسبانيا كارلوس الثاني. لم يكن محمد الغساني شخصية عادية فقد ذكرته الكثير من تراجم المؤرخين المغاربة وأشادت بنبوغه ونباهته، فقد كتب عنه المؤرخ المغربي محمد القادري في “نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني عشر” بقوله: “هو الكاتب الأرفع أبو عبد الله محمد المدعو حمو بن عبد الوهاب الوزير الغساني الأندلسي الفاسي. كتب للسلطان مولانا إسماعيل، وكان نجيبا في ذلك، ذُكر أنه كان كل ما يَلقى من الأوامر يكتبها ويستوفيها، ولا يغرب عليه شيء منها مع كثرتها. وقد أرسله السلطان إلى بلاد الروم بالأندلس، بقصد أن يستخرج ما بأيديهم من أسرى المسلمين، ويستخرج ما بقي من الكُتب بالمشاهد التي كانت للمسلمين، وألف في رحلته تلك كتابا سماه “رحلة الوزير في افتكاك الأسير”.
مشاهدات من رحلة الوزير الغساني
ارتبط السياق التاريخي الذي أتت فيه الرحلة بتمكن السلطان مولاي إسماعيل من استرجاع مدينة العرائش من الاحتلال الإسباني الذي دام ثمانين سنة متواصلة.
لقد أراد السلطان مولاي إسماعيل استغلال سقوط الحامية الإسبانية في يد الجيش المغربي كأسرى حرب لتحقيق صفقة تبادل للإفراج عن ما يقرب من 500 أسير مسلم بين مغربي وموريسكي يقبعون في السجون الإسبانية، ومحاولة استرجاع خمسة آلاف من المخطوطات التي تعود إلى السلطان السعدي مولاي زيدان، التي استولى عليها القراصنة الإسبان، عندما كان البحارة المغاربة ينقلونها من مدينة آسفي إلى مدينة أكادير عبر البحر. هذه المخطوطات التي ما زالت إلى يومنا هذا محفوظة في مكتبة الإيسكوريال في إسبانيا.
مكنت هذه الرحلة الوزير محمد الغساني، إضافة إلى مهمته الدبلوماسية، من الوقوف على الكثير من مظاهر الحياة في إسبانيا، وتقديم صورة وفية لمشاهداته وملاحظاته بأسلوب بسيط إلى القارئ المغربي والنخبة المثقفة والعالمة في المغرب لتحقق فهما جيدا للآخر وتبيان أوجه الاختلاف بين الضفتين الشمالية والغربية، كما يبرز في رحلته الخصائص الاجتماعية والدينية والإدارية للحياة والثقافة الإسبانية، لذلك اتسمت رحلته بقدر من الموضوعية لا يستهان به. ومن بين الأمور التي لفتت نظره في إسبانيا موضوع الصحافة:” وبمدريد شيء آخر زائد… وذلك أنه إذا كان خبر من بلدان بعيدة نائية، فإن فيها دارا فيها قالب الكتابة، وهو على يد رجل واحد قد تحمل لذلك مكسا للطاغية (أي الملك) معينا على رأس كل سنة، فمهما سمع بخبر أو طرقه خبر وبحث عنه. يجمع من الأخبار ما يجمع ويفرغ عليه قالبا يطبع عليه آلافا من القراطيس ويبيعها بأقل ثمن، فتجد الرجل في يده منها شيء كثير ينادي عليها ويقول: من يشتري أخبار البلاد الفلانية، فمن أحب الاطلاع على ذلك يشتري منها قرطاسا، ويسمونها الكاسيطة، فيطلع الإنسان منها على أخبار كثيرة، إلا أن فيها من الزيادة والكذب ما تحمل عليه الشهوة النفسانية”.
مصارعة الثيران وموضع الطاغية
يصف الغساني أيضا في رحلته مصارعة الثيران: “وبهذه البلاصة (حلبة مصارعة الثيران) يجعلون أعيادهم ومواسمهم كعيد الثيران وغيره. فإن من عوائدهم إذا كان شهر ماي في العاشر منه، أو في النصف، أنهم يختارون ثيرانا فحولا سمانا ويأتون بها إلى تلك البلاصة، ويزينونها بأنواع الفرش من الحرير والديباج ويجلسون في السطوح المطلة على البلاصة، ويطلقون الثيران في وسط البلاصة واحدا واحدا، ويدخل إليهم من يدعي الشجاعة ويحب إظهارها راكبا على فرسه ليقاتل الثور بالسيف، فمنهم من يموت ومنهم من يقتل الثور. وموضع الطاغية (الملك الإسباني) في تلك البلاصة معلوم، ليحضر ذلك هو وزوجته وجميع حشمه، والناس على اختلاف أعراضهم في الطيقان، فإن كراءها في ذلك اليوم وحده، أو في عيد مثله، يعطى في موضع واحد مثل ما يعطى في السنة كلها”.
أخيرا، يذكر الغساني لقاءه ببعض من تبقى من الموريسكيين في إسبانيا الذين يخفون إسلامهم: “… فلقد لقيت يوما بمدينة مدريد رجلا… راكبا في كدش له (أي عربة)، ومعه جماعة من النساء صغارا وكبارا، لهم حسن وجمال، فوقف وسلم سلاما كثيرا، وأظهر هو ومن معه من النساء بشرا وترحيبا، فقابلناه بما يجب. وحين أراد الانصراف عرف بنفسه بأن قال: نحن من جنس المسلمين من نسل أولاد السراج… ينتسبون إلى الجنس الذي كان بغرناطة، وغلب عليهم الشقاء والعياذ بالله. ولقد كانوا يسألون عن دين الإسلام وعن أشياء منه، فحين يسمعون ما نجيبهم عنه من الديانات، وأحكام الطهارة التي بُني الإسلام عليها، وغير ذلك، يعجبهم ما يسمعون منه وينصتون إليه… ويظهرون من المحبة والتحنن شيئا كثيرا. نسأل الله تعالى أن يهديهم إلى الصراط المستقيم، ويرشدهم إلى الدين القويم…”.