
إعداد: سعيد الباز
يعد شارل داروين أشهر علماء الأحياء وأكثرهم إثارة للجدل منذ ظهور كتابه “أصل الأنواع” الذي بسط فيه نظريته في التطور والانتقاء الطبيعي. هذه المكانة العلمية الكبيرة التي استطاع شارل داروين تحقيقها والوصول إليها من خلال رحلته التي مكنته من إجراء أبحاثه واستكشافاته طيلة أطوار الرحلة انتهاء ببناء نظريته الشهيرة.
كتاب “رحلة عالم طبيعة حول العالم” يضمُ بين دفَتَيه يومياتِ داروين حول رحلته التي شملت مناطقَ في أمريكا الجنوبية ونيوزلندا وأستراليا، في الرحلة الطويلة المعروفة برحلة “البيجل” نسبةً إلى السفينة التي انطلق شارل داروين على مَتنها في رحلته حول العالَم. كان مقدَرًا لهذه الرحلة أن تستغرق عامَين، ولكنها استمرت خمسةَ أعوام كاملة، حيث بدأت في دجنبر 1831 وانتهت في أكتوبر1836. فمن أطراف أمريكا الجنوبية وجزر غالاباغوس إلى أستراليا وجزيرة تاهيتي، بدأ شارل دراسةَ الجيولوجيا، وانتهى به المطاف إلى معلوماتٍ من شأنها أن تقود إلى نظريته عن التطوُر بالانتخاب الطبيعي. تحتلُ هذه الرحلة مكانةً مميزة في تاريخ الاستكشاف العلمي، ويقوم هذا الكتابُ على ملاحظات داروين ووجهات نظره التي اتَسمت بدِقَتها ووضوحها وتنوُعها، فأصبحت بمثابة مَرجعٍ للقراء العاديين والمُتخصِصين على حدٍ سواء.
مشاهد من رحلة داروين
تضمنت رحلة داروين العديد من التفاصيل التي تتجاوز المهمة العلمية لعالم طبيعة إلى مجموعة من الطرائف والمستملحات المثيرة التي عاشها داروين خلال هذه الرحلة وسجلها بأسلوب أدبي أكثر منه علمي. ففي رحلته إلى ما يسمى حاليا الأوروغواي يصور لنا، على سبيل المثال، ظروف إقامته بها وبعض ملاحظاته حول أنماط العيش والعقلية السائدة لدى ساكنتها بقوله:
“… بتنا ليلتنا في منزل ريفي صغير منعزل، ولم يمر وقت طويل قبل أن أكتشف أن بحوزتي شيئين أو ثلاثة، كان أبرزها بوصلة جيب كانت تُثير دهشة لا حدود لها، ففي كل منزل زرته طُلب مني إظهار البوصلة، واستخدامها، إلى جانب الخريطة، لإيجاد اتجاه العديد من الأماكن. وكان مما يثير أشد درجات الإعجاب أنني، كغريب تماما عن المكان، أعرف الطريق (الاتجاهات والطرق مترادفين في هذه البلاد المفتوحة) لأماكن لم أكن قد زرتها من قبل. في أحد البيوت، كانت هناك امرأة شابة مريضة طريحة الفراش أرسلت تتوسل كي أزورها وأريها البوصلة. وإن كانت دهشتهم كبيرة، فقد كانت دهشتي أكبر حين وجدتُ مثل هذا القدر من الجهل بين بشر يملكون آلافا من رؤوس الماشية ومراعي ممتدة على مساحات كبيرة. السبب الوحيد في هذا هو أن هذا الجزء المنعزل من البلاد نادرا ما يزوره الأجانب. سُئلتُ إذا ما كانت الأرض أو الشمس تدوران، وإذا ما كان الشمال باردا أم حارا، وأين تقع إسبانيا وأسئلة أخرى عديدة. كان العدد الأكبر من السكان لديهم فكرة ملتبسة أن إنجلترا ولندن وأمريكا الشمالية هي أسماء مختلفة للمكان نفسه. لكن كان الأكثر علما ومعرفة منهم يعتقدون أن لندن وأمريكا الشمالية دولتان متجاورتان، وأن إنجلترا بلدة كبيرة في لندن ! كنتُ أحمل معي بعض الكبريت الذي كنتُ أشعله بالعض، وكان من دواعي دهشتهم أن يتمكن رجل من إشعال النار بأسنانه ! حتى إنهم اعتادوا جمع أفراد العائلة كلهم لمشاهدة الأمر، وقد عُرض علي ذات مرة الحصول على دولار مقابل عود كبريت”.
تساؤلات واندهاش
كان غسل وجهي في الصباح يُثير الكثير من التساؤلات في قرية لاس ميناس، حتى إن واحدا من كبار التجار جاء ليستجوبني عن قرب عن هذه العادة شديدة الغرابة. كما سألني لماذا نُطلق لحانا على متن السفينة، إذ سمع من دليلي أننا نفعل هذا. كان يراقبني بكثير من الشك، لعله سمع بممارسة الوضوء في الدين الإسلامي… فربما قاده هذا الاستنتاج أن كل المهرطقين من الأتراك. كان من العادات السائدة في هذه القرية طلب المبيت في أول بيت مناسب. كان الاندهاش من البوصلة وغيرها من أعمال الشعوذة التي كنتُ أمارسها مفيدا لي بدرجة ما. إذ كان ذلك، إلى جانب القصص الطويلة التي كان يرويها مرشداي عن تكسيري للصخور، وقدرتي على التمييز بين الثعابين السامة وغير السامة وجمع الحشرات وما إلى ذلك، وسيلتي لمكافأتهم على استضافتهم لي. أشعر وأنا أكتب الآن كما لو كنتُ جالسا بين سكان وسط أفريقيا. لن تكون باندا الشرقية (الأوروغواي حاليا) أفضل بالمقارنة، لكن هذا ما كنتُ أشعرُ به آنذاك… خلال الأمسية، جاء عدد كبير من فرسان “الغاوتشو”… كان شكلهم لافتا للغاية، إذ كانوا يتسمون عموما بطول القامة والوسامة، لكن كان سيماهم يعلوه تعبير من التكبر والانحلال الأخلاقي. كانوا كثيرا ما يطلقون شواربهم ويتدلى على ظهورهم شعر طويل أسود مموج. كانت ملابسهم الزاهية الألوان والمهاميز الكبيرة التي تصلصل في كعوب أحذيتهم والسكاكين المعلقة كخناجر (وغالبا ما تستخدم بالفعل) في خصورهم تجعلهم يبدون كجنس من البشر يختلف تماما عن الريفيين البسطاء… كان لطفهم وتهذيبهم زائدا عن الحد، لكن أثناء انحناءاتهم الشديدة الكياسة لتحيتك، يبدون كما لو كانوا متأهبين تماما لشق حلقك”.