
إعداد: سعيد الباز
أنجز الرحالة السويسري جون لويس بوركهارت Jean Louis Buckhaedt
(1784- 1817) خلال عمره القصير ما لم يحلم به رحالة أوروبي، فقد كان أول من اكتشف مدينة البتراء، أول أوروبي يدخل إلى الديار المقدسة في الجزيرة العربية، وأول من رسم خريطة لمدينة مكة. إن غزارة ما كتبه في رحلاته المتعددة عن بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية وبلاد النوبة والسودان ما زالت تعتبر أمرا مذهلا، إذ لم تكن هذه المناطق هي الهدف الرئيسي لرحلاته، بل كان هدف بوركهارت هو اكتشاف منابع نهر النيجر في أعماق إفريقيا، وكان في اعتقاده أن ذلك لن يتحقق إلا إذا أتقن اللغة العربية وأَلَمَّ بالإسلام، ليسهل عليه التنقل في المناطق الإفريقية المجهولة بصفته عربيا ومسلما.
دراسة اللغة العربية
ولد بوركهارت في مدينة لوزان السويسرية لأب سويسري وأم إنجليزية، وبسبب احتلال نابليون لبلاده انتقل إلى لندن. هناك اختمرت في ذهنه أفكاره عن الرحلة والاستكشاف، التي كانت في ذلك الوقت، محط اهتمام أوروبا بأكملها، وأصبح هؤلاء الرحالة أعلاما ونجوما في المجتمعات الأوروبية. قرر بوركهارت أن يلتحق بجامعة كمبريدج لدراسة اللغة العربية وأظهر تفوقا ملحوظا ما، وبتشجيع من أساتذته والدوائر المهتمة بالاستكشاف والبحث الجغرافي، التي لم تكن تُخفي أهدافها الاستعمارية.
غادر بوركهارت بريطانيا وعمره لم يكن يتجاوز 25 عاما باتجاه المشرق العربي عبر مالطا، ثم تركيا وإلى حلب بالشام، حيث مكث ثلاث سنوات واتخذ لنفسه اسم الحاج إبراهيم بن عبد الله، وصولا إلى مصر، حيث توطدت علاقاته بمحمد علي باشا، ما سمح له بزيارة الديار المقدسة في شبه الجزيرة العربية، وأيضا بلاد النوبة والسودان، أثمرت كتبا مهمة صارت مصادر أساسية للباحثين والدارسين: «رحلات في بلاد الشام»، «رحلات في بلاد النوبة»، «رحلات في شبه الجزيرة العربية»، هذه الرحلات كانت ناجحة بفضل العلاقات التي اكتسبها طيلة وجوده في مصر بصفته إبراهيم بن عبد الله. رغم الدقة العلمية التي اتصف بها بوركهارت في رسم الخرائط والاستناد إلى الإحصائيات والاستعانة بالملاحظات المباشرة، فقد كانت تظهر لديه بعض النزعات الاستشراقية وغموض بعض أهدافه ومقاصده من الرحلة.
بوركهارت في مكة والمدينة
«… وصلتُ إلى مكة عند منتصف النهار تقريبا، وذهب رفاقي بحثا عن معارفهم من الجنود وتركوني لأتدبر أمري، وأنا لا أعرف أحدا في المدينة، ولم يُوص بي أحد إلا القاضي الذي، كما سبقتُ أن ذكرتُ، أملتُ في تجنبه.
إن كل من يدخل مكة، سواء أكان حاجا أم لا، مرغم وفق الشرع على زيارة المسجد مباشرة، ودون القيام بأي من الشؤون الدنيوية قبل القيام بذلك. اجتزنا سلسلة المتاجر والمنازل إلى بوابات المسجد، حيث أنزلني سائق الحمار وأخذ أجرته. وهنا دنا مني ستة من المطوفين، «أي المرشدين إلى الأماكن المقدسة»، وقد عرفوا من الإحرام الذي أرتديه أنني أنوي زيارة الكعبة… بعد أن أتممتُ شعيرتَي الطواف والسعي المنهكتين، حلقتُ جزءا من رأسي وبقيت جالسا في دكان الحلاق بما أني لا أعرف أي مكان آخر أستريح فيه. وقد بحثت عن مساكن، لكني علمتُ أن المدينة قد امتلأت بالحجاج وبآخرين عديدين قاموا بحجز الشقق قبل وصولهم. لكني وجدتُ بعد قليل من الوقت رجلا عرض علي غرفة جاهزة مفروشة وقد استأجرتها وسكنت مع المالك، بما أنني لا أملك خادما. وقد أوى هو وعائلته المؤلفة من زوجة وولدين إلى فناء الدار المفتوح بجونب غرفتي. وكان المالك رجلا فقيرا من المدينة يعمل كمطوف أو دليل. ورغم أنه كان ينتمي إلى طبقة أدنى من الطبقة الثانية حنى من المكيين، فقد كلفني خمس عشرة ليرة في اليوم…
إن آلاف المصابيح التي تُضاء خلال شهر رمضان في المسجد الكبير قد جعلت منه الملاذ الليلي لكل الأجونب في مكة، فهنا يتنزهون أو يجلسون للمسامرة إلى ما بعد منتصف الليل، ويقدم المنظر بمجمله مشهدا هو، لولا غياب النساء، أشبه بتجمع ليلي أوروبي من أي شيء كنتَ تصوّره عن مكان إسلامي مقدس. ولم نشهد الليلة التي تختتم شهر رمضان عروض الابتهاج الرائعة تلك التي تُشاهد في أجزاء أخرى من الشرق. وقد خلت كذلك الأيام الثلاثة التالية للاحتفال من التسلية العامة. وقد وُضعت بعض الأراجيح لتسلية الأطفال، وكان بعض المشعوذين المصريين يعرضون أعمالهم أمام الجماهير المحتشدة في الشوارع، لكن قليلا ما تحصل أشياء أخرى تدخل على العيد، باستثناء ارتداء ملابس مبهرجة يفوق فيها عرب شبه الجزيرة إخوانهم السوريين والمصريين.
قمتُ بزيارة القاضي وهي زيارة معتادة بمناسبة هذا العيد. وعند انتهاء اليوم الثالث (الخامس عشر من شتنبر) انطلقت إلى مدينة جدة، لإتمام شراء عُدَّة للسفر يمكن الحصول عليها هناك بسهولة أكثر منها في مكة. وفي طريقي إلى الساحل، كدتُ أصبح في «البحرة» على مجموعة من الوهابيين الخارجين عن القانون. وقد مددت فترة إقامتي في جدة ثلاثة أسابيع بسبب قدميّ المتقرّحتين، وهو داء واسع الانتشار على هذا الساحل غير الصحي، إذ إن كل لدغة بعوضة تصبح جرحا خطيرا إذا ما أهملت».