
إعداد: سعيد الباز
تعتبر حياة الموريسكي شهاب الدين أحمد بن قاسم الحجري مليئة بالمغامرات التي امتدت لعقود منذ أن قرر هذا الشاب الغرناطي أن يخرج من بلاده قاصدا المغرب فرارا من محاكم التفتيش الإسبانية والاضطهاد الديني في بلاد الأندلس. اشتهر الحجري بلقب أفوقاي التي تعني المحامي بالإسبانية وهي المهمة الرسمية التي كلف بها للدفاع عن الأندلسيين الذين نُهِبت سفنهم المكتراة من قبل الفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين، وبذلك يعتبر أقدم المحامين المسلمين في القضاء الأوروبي. لكن لم يكن أفوقاي محاميا فحسب، بل كان مترجما بحكم اتقانه للغة الإسبانية والبرتغالية مثل ترجمته عن الإسبانية كتاب “العز والمنافع للمجاهدين بالمدافع”، وسفيرا في عهد السعديين خاصة أحمد المنصور الذهبي وخلفه زيدان إلى فرنسا وهولندا…
أفوقاي ورحلة الهرب إلى المغرب
يذكر أفوقاي في رحلته كيف لجأ إلى البريجة (الجديدة حاليا) متنكرا في صفة مسيحي رفقة صديقه، لكي يتمكن من الهروب منها قاصدا مدينة أزمور ومنها إلى مراكش أيام السلطان السعدي المنصور الذهبي. ويصف ذلك بقوله: “اعلم رحمك الله تعالى، أن البلاد التي على حاشية أبحر بلاد الأندلس، وأيضا فيما لهم في بلاد المسلمين، أن النصارى فيها من الحرص والبحث في من يرد عليها من الغرباء شيئا كثيرا. كل ذلك لئلا يذهب أحد أو يجوز عليها إلى بلاد المسلمين، وهمني الأمر كثيرا في كيفية الخروج من بينهم، وركبت البحر في بلد يسمى شنت مريا (سانتا ماريا)، وكان لي صاحب من بلدي من أهل الخير والدين ومشى معي مهاجرا إلى الله وبلاد الإسلام… وأهل القارب لا يشكون فينا بأننا منهم، فقطعنا البحر في يومين ونزلنا في بلد يسمى بالبريجة هو للنصارى وليس بينه وبين مدينة مراكش إلا نحو الثلاثة أيام للماشي المتوسط، وتعجب من المنع الذي في بنيان سورها، هو أساسه على حجر صلد، وسقفه ثلاثة عشر ذراعا ولا يبالي بكور المدافع من إتقانه وغلظه، حتى شاهدت ثلاثة من الفرسان بخيلهم يدفعون خيلهم جملة على السور ولا يخافون الوقوع منه. ولما أن دخلنا سألنا القبطان: ما سبب قدومكم؟ قلت له: وقع لنا شيء من التغيير مع أناس ببلاد الأندلس وجئنا إلى حرمتكم، قال: مرحبا بكم. قلت أحب منك أن تأذن لنا في رجوعنا إلى بلادنا مهما أردنا. قال: أذنت لكما”.
تسلل أفوقاي ورفيقه ليلا من البريجة قاصدين أزمور مختبئين خشية أن ينتبه إليهما حراس الأسوار، وتمكنا من النجاح في ذلك، فيقول: “… وسرنا من البريجة، ثم صعدنا على جبل ورأينا المسلمين يحصدون الزرع ولما قربنا منهم جاؤوا إلينا بأسلحتهم وخيلهم، فلما وصلوا إلينا قلنا لهم: نحن مسلمون، فأمسكوا عن الحرب، وفرحوا بنا فرحا عظيما، وأعطونا الخبز والطعام الذي لم نره من يوم الجمعة قبل الزوال إلى يوم الاثنين عند الضحى. ثم بلغنا إلى أزمور فأقبل علينا قائدها… وشكرته على قضاء الحاجة وخلاصنا من الكفار… وبعد ذلك دخلنا مراكش، وهي مدينة كبيرة، وفواكهها كثيرة، وعنبها ليس في الدنيا مثله… وبعد أن دخل السلطان من المحلة وكان ذلك عام سبع وألف، وأنعم علينا، وأذن لنا في الدخول إلى حضرته في يوم الديوان. ولما ابتدأت بالكلام الذي اخترته أن أقوله بحضرته العالية بصوت جهير سكت جميع الناس الحاضرون كأنها خطبة. ففرح السلطان وقال كيف يكون ببلاد الأندلس من يقول بالعربية مثل هذا الكلام، لأنه كلام الفقهاء. وفرح بذلك كافة الأندلس القدماء، ورأينا العافية والرخاء في تلك البلاد…
أفوقاي السفير والمحامي
يذكر أفوقاي بالتفصيل أسباب تكليفه بالدفاع عن حقوق الأندلسيين المنهوبين بقوله: “… وكان الأندلس يقطعون البحر في سفن النصارى بالكراء، ودخل كثير منهم في سفن الفرنج ونهبوهم في البحر. وجاء إلى مراكش أندلس منهوبون من الفرنج من أربع سفن. وبعث رجل أندلسي من بلاد الفرنجة يطلب منهم وكالة ليطلب الشرع عنهم ببلاد الفرنج واتفق نظرهم أنهم يبعثون خمسة رجالا من المنهوبين ويمشي بهم واحد من الأندلس الذين سبقوهم بالخروج، واتفقوا أنني نمشي بهم وأعطاني السلطان كتابه. وركبنا البحر المحيط بمدينة أسفي”. ثم يصف لنا مدينة باريس ورفعه لقضية الأندلسيين: “هي دار سلطنة الفرنج، وبينها وبين مدينة روان نحو الثلاثة أيام… وبيوتها عالية… وكلها عامرة بالناس، وديار الأكابر بالحجر المنجور إلا أنه بطول الزمن يسود لون الحجر… وقد رفعنا أمرنا الذي جئنا بسببه إلى تلك البلاد إلى الديوان السلطاني وأعطوا كتب السلطان للقضاة”. وبعدها أمستردام في هولاندا: “ولما بلغنا إلى مدينة أمسترضام، رأيتُ العجب في حسن بنيانها، ونقائها، وكثرة مخلوقاتها، كاد أن تكون في العمارة مثل مدينة بريش (باريس) بفرنجة. ولم تكن في الدنيا مدينة بكثرة السفن مثلها. قيل إن في جميع سفنها، صغارا وكبارا، ستة آلاف سفينة”.