ذكريات من زمن دار إبراهيم الروداني حيث تعرفتُ على عباس المساعدي والصحافي أحمد زياد
حياة في ظِلّ ملِكين

يونس جنوحي
في هذه الأجواء التي تعلمنا فيها مبادئ العمل النقابي والسياسي، كان عاديا أن نلتقي بشخصيات مثل المحجوب بن الصديق، الذي كان دائم التردد على الكاريان سنطرال، وكانت أيضا تربطه بشخصياته علاقات إنسانية قبل أن تكون سياسية.
وبحُكم اندماجي السريع وسط هذه الأجواء المفعمة بالحماس، خصوصا ما بين سنتي 1952 و1953، وجدتُ نفسي في قلب دار الرجل الذي كنا نسميه «Le père»، أي «الأب». دار إبراهيم الروداني كانت مفتوحة أمامنا، ولم تكن أبوابها توصد في وجه أحد. وفي داره تعلمتُ الكثير من أسس النضال، بل أستطيع القول إن هذا الرجل جنّبنا كوارث حقيقية.
رحلة يومية
كانت زيارتي إلى دار المقاوم إبراهيم الروداني شبه يومية. دار فسيحة جدا وغرفها كثيرة، وبها مجلس لا يكاد يخلو من الزوار. سواء زُرتَ إبراهيم الروداني نهارا أو مساء، فسوف تجد عنده على الأقل ما يفوق العشرين ضيفا. أقولها بدون مبالغة، لقد كان الرجل قِبلة حقيقية لشباب الدار البيضاء وسياسييها ومناضليها. طاولات الطعام ممدودة دائما، وكل من تاهت به سُبل الدار البيضاء، أو تورط في مشكلة مع البوليس الفرنسي، فإن أول ما يقصده، دار إبراهيم الروداني.
في أول لقاء لي به، وقد توجهت إلى داره رفقة مجموعة من الإخوان من «الكاريان»، مازحني لصغر سني في ذلك التاريخ، فقد كنتُ لم أبلغ السابعة عشرة بعدُ. وكان دائما يستقبل شكاوى الإخوان بكثير من التطمين، حتى لو كان الأمر يتعلق بكارثة حقيقية. كان دائما ما يُقلل من هول الأمور، ويقترح الحلول ويُزيح عن المناضلين والمقاومين ما بهم من كرب.
كان الشهيد إبراهيم الروداني رحمه الله يُعزني كثيرا بحكم حداثة سني وقتها. فقد تعرفت عليه مع نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، وسني وقتها لم يكن يتجاوز 16 سنة فقط. وكان يمازح جُلساءه في كل مرة بصغر سني وانجذابي إلى عالم المقاومة والكفاح ضد الحماية الفرنسية.
إبراهيم الروداني كان أكثر شخص قابلته في حياتي كلها، ميلا إلى اتخاذ روح المبادرة وإسقاط الكلفة بينه وبين الناس.
أصوله السوسية، بحكم أنه ابن منطقة تارودانت، لعبت دورا كبيرا في وجود هذه الخِصلة في دمه. فرغم أنه كان غاية في الثراء وأعماله التجارية ناجحة جدا، إلا أن حديثه لا يشي نهائيا بالطبقة الاقتصادية التي ينتمي إليها.
«آجي نتا هنا».. بهذه العبارة يبدأ كلامه مع أغلب ضيوفه، قبل أن يُلقي نكتة أو يمازحهم مزيلا كل الحواجز بينه وبين من يستضيفهم في داره.
وإنني، إذ أستغرب سبب تغييب اسم المقاوم الكبير إبراهيم الروداني، في عدد من الكتابات التي انكبّت على تاريخ المقاومة وخلايا الدار البيضاء، إلا أنني أعتز أيضا ببعض المقاومين الذين ذكروا مناقب هذا الرجل، وفضله على المقاومة. إذ لم يكن يمولها فحسب، بل كان يبذل المال لحماية المُنتسبين إليها ويرعى أسر الشهداء والفارين من قبضة البوليس الفرنسي.
«إمبراطورية» الروداني
دار إبراهيم الروداني كانت بحق محجا يلتقي فيه المقاومون وسياسيون من كل الأطياف. الأجواء كانت رائعة، وهناك التقيتُ لأول مرة بالصحافي أحمد زياد، وأيضا بالمقاوم عباس المساعدي، الذي كان يشتغل في نفس الوقت مُحاسبا لدى الروداني، وكان محط ثقته.. وغيرهم كثر.
فقد كان ضيوف دار الروداني من كل الأطياف، وقد تجد عنده واحدا من كبار أثرياء الدار البيضاء، جالسا في نفس الطاولة مع واحد من سكان أفقر أحياء المدينة القديمة، وجميعهم محل ترحيب.
المعروف أن إبراهيم الروداني كان يملك مشروعا ناجحا للجزارة وبيع اللحوم. فقد كان يزود السوق بكميات هائلة من اللحوم. كما أنه كان يملك مشروعا لتجارة الخشب.
كان يأتي إليه يوميا من يرغبون في الحصول على بعض المال لتنفيذ عمليات المقاومة. لكنه، بخبرته الطويلة في الحياة، كان يعرف متى يُبادر إلى التمويل، ومتى يُسدي نصيحة بالتريث.
ومما لا يعرفه الكثيرون عن شخصية إبراهيم الروداني، أنه كان محط إعجاب شخصيات فرنسية أيضا. فقد كان يميل رحمه الله إلى ارتداء البذل العصرية، ولديه أصدقاء من مختلف المشارب. مثقفون، مغاربة وفرنسيون، ورجال أعمال مغاربة وأجانب، بالإضافة إلى أصدقاء سياسيين من قادة الحركة الوطنية، وصولا إلى مصادر في البوليس. وهذه النقطة الأخيرة لعبت دورا كبيرا في تعزيز مكانته في الساحة السياسية في الدار البيضاء، فقد كانت مصادره موثوقة جدا، ويتوصل بمعلومات أمنية حساسة، استعملها لإرشاد المقاومين وأعضاء الخلايا السرية حتى لا يقعوا في قبضة البوليس.
أعود للحديث هنا عن أحمد زياد وعباس المساعدي. فكلاهما معا تعرفت عليهما في دار الروداني. أحمد زياد ربطتني به علاقة وطيدة جدا عندما انتقلتُ إلى المنطقة الخليفية في تطوان، وعشتُ معه ذكريات عرفتُ فيها معدن هذا الرجل الذي كان أشهر صحافي مغربي في فترة الحماية، وكان يكتب عمودا في صحيفة «العَلم» وقتها. وهذا العمود تسبب له في مشاكل كثيرة مع الإدارة الفرنسية، وكان أول من هندس لاستقبال أعضاء المقاومة في تطوان حماية لهم من مذكرات البحث الفرنسية وحتى أحكام الإعدام.. وأحزنني كثيرا المآل الذي آل إليه. وسوف آتي إلى تفاصيل علاقتي به وأيامه الأخيرة والنكران والتغييب الذي طاله.
أما عباس المساعدي، الذي يظن الكثيرون أنه ينحدر من منطقة الشمال بحكم أنه قُتل في منطقة أكنول وكان مسؤولا عن جيش التحرير هناك، فهو في الحقيقة ابن منطقة تارودانت، وهو سوسي الأصل، ولهذا السبب كان يُعتبر اليد اليُمنى لإبراهيم الروداني، والمُحاسب الذي يثق فيه ويضع أمواله بين يديه.
عشتُ مع عباس المساعدي لحظات حرجة، كانت لغة الرصاص فيها هي السائدة، عندما كنا معا في الشمال ما بين 1953 و1956. وقد أسرّ لي مرة أنه تلقى تعليمات بتصفيتي جسديا عندما زُرته في المنطقة التي كان يشرف فيها على فرع من فروع جيش التحرير في الشمال. وتابعتُ موته الذي لا يزال إلى اليوم محط تشكيك وتراشق للاتهامات.
هذه ملامح فقط لأبرز شخصيتين تعرفتُ عليهما في دار إبراهيم الروداني التي كانت فعلا قِبلة لكل المشارب والانتماءات. وقلّما تجد في التاريخ شخصا وقع عليه إجماع، مثل الإجماع الذي حظي به إبراهيم الروداني رحمه الله. وقد كانت وفاته المؤسفة بسبب الشعبية الكبيرة التي كان يحظى بها في أوساط المقاومين، وكلمته المسموعة عند أهم الخلايا السرية للمقاومة في الدار البيضاء.
تأسفتُ كثيرا لأنني لم أكن قريبا من تفاصيل وفاته، فقد كنت قد انتقلت إلى تطوان، هربا من الشرطة الفرنسية، بعد أن أصبحتُ مبحوثا عني. لكن هذا وقع بعد سلسلة من العمليات التي شاركتُ فيها رفقة الكثيرين من مقاومي «الكاريان».
بداية العمل المُسلح..
منذ التحاقي بالكاريان سنطرال سنة 1948، بدأت أفكر في المقاومة. لكن الحقيقة أن الخطوات الحاسمة لتأسيس الخلايا السرية، لم تعرف أوجها إلا عندما نفي السلطان سيدي محمد بن يوسف يوم 20 غشت 1953.
وقد لعبت دار المقاوم إبراهيم الروداني دورا كبيرا في توجيهي لهذا الغرض. إذ كنت ألتقي عنده عددا من المقاومين، لكن المرة الأولى التي أبنتُ له فيها عن نيتي، كنت قد انتظرتُ إلى أن انفردتُ به لكي أعبر له عن تفكيري في الأعمال الفدائية. فابتسم رحمه الله ومازحني كعادته، وطلب مني أن أتريث قليلا وأبتعد عن الاندفاع.
أذكر في إحدى المرات أنني جئته متحمسا وقلت له إنني سوف أخبره بسر نخطط له، وهو أن نُنفذ عملية فدائية تقضي بتفجير محطة للوقود في الدار البيضاء بالقرب من الميناء. فكان رحمه الله، عطوفا، وابتسم في وجهي ابتسامة الأب، وقال لي إننا إن نفذنا هذه العملية، فلا بد أن الدار البيضاء كلها سوف تُنسف. والسبب أن خطوط إمداد البنزين كانت مدفونة تحت الأرض وتتصل مباشرة بالميناء، والعملية لا بد أن تنسف كل شيء وتُحرق الميناء تماما، والخسائر سوف تتجاوز المرجو من المخطط.
أما كيف تبادرت الخطة إلى أذهاننا، فقد كنا جالسين في الكاريان نفكر في ما يمكن أن نفعله، خصوصا بعد واقعة مجزرة الكاريان سنطرال، وكان أحد الإخوان يعمل في محطة للوقود في قلب الدار البيضاء، وبدأ يحكي لنا عن الأنابيب وكيفية تعبئتها بالبنزين، وحجم الأرباح التي تعود بها على أصحابها. فخطرت لنا فكرة تفجيرها دون أن نحسب العواقب بطبيعة الحال.
لم نكن نعرف أن المحطة مرتبطة بالميناء، وبالخزانات الضخمة، التي كان تفجيرها بلا شك، سوف يتسبب في كارثة تفوق أضرارها آلاف المرات ما كنا نخطط له. كان إبراهيم الروداني رحمه الله محقا.
حالة الاندفاع التي كنا عليها، تأججت عقب أحداث السابع من دجنبر 1952، وعرفت أوجها عند نفي السلطان سيدي محمد بن يوسف.
كانت أيامي في الدار البيضاء تقترب من نهايتها. فاليوم الذي وصل إلينا خبر نفي السلطان، كان يوما مشهودا. الأيام التي تلته، لم تكن تشبه في شيء أيام الله الأخرى. ودار إبراهيم الروداني، كانت الملجأ الذي توجهتُ إليه، وأنا أبيّت في نفسي أفكار بداية الانتقام، والانخراط في العمل المسلح، طيلة مسافة الرحلة بين دار الروداني والكاريان.