شوف تشوف

الرأي

ذكرى من تاج محل

يونس جنوحي
رغم أن مقام تاج محل المعروف عالميا بشساعة المساحة التي يحتلها وعلو أسواره الرخامية الناصعة البياض وزواره القادمين من كل مكان، إلا أن أقوى ذكرى يمكن أن يحتفظ بها الزائر لنفسه، هي بلاغة وحكمة بعض المتجولين بين جنباته والمتأملين للسماء في حديقته.
كان المرشد السياحي منهمكا في شرح تفاصيل عن سنوات بناء مقام تاج محل الذي بدأت الأشغال فيه سنة 1632، ولم تنته إلا بعد ثلاثين سنة تقريبا. وقد بناه الملك الهندي لزوجته ممتاز محل، ليكون عرفانا منه بحبه لها بعد وفاتها وشرع في بناء قصر شبيه لتاج محل لكي يكون ضريحا له بعد وفاته، على الضفة الأخرى من الوادي الذي لا يزال يجري إلى اليوم، لكن ابنه قام باغتياله نظرا للتكلفة الكبيرة جدا لأشغال البناء والرخام الذي كان يتم جلبه من إيطاليا بحكم أن الرخام الهندي كان شديد القساوة وكان الاشتغال عليه في البناء والزخرفة مستحيلا.
مات ممتاز محل، ولم يُدفن كما كان يريد، وترك خلفه شعبا من الفقراء لا يزالون يعيشون في «أكرا»، ولا يزال أحفادهم يعانون من أجل كسرة خبز. صعوبة الحياة لا تخطئها العين على سحنات كل الذين تلتقيهم عند مدخل «أكرا» في الطريق إلى تاج محل. سائقو الدراجات النارية التي تقل السياح وباعة التذكارات وأصحاب الدراجات الهوائية الذين لا يُمانعون رغم نحافتهم في نقل سائح أوربي بدين بضعة أمتار بمبلغ زهيد جدا لكي يمتع ناظره بانعكاس أشعة الشمس على جدران تاج محل الشاهقة.
متسولون يطلبون الإحسان بتودد، وآخرون يكتفون بمراقبة أشعة الشمس فوق عشب حديقة القصر، غير مبالين بعدسات المصورين العالميين. لكن أكثر ما يثير الانتباه، أفواج العشاق والأزواج الجدد الذين يأتون تباعا لالتقاط صور للذكرى، ويتزاحمون مع السياح من كل مكان في الأرض لدخول البوابة الصغيرة المفضية إلى مكان دفن «ممتاز محل» التي جعلت زوجها يقيم لها ذلك الضريح اعترافا بحبه لها.
وحده المرشد السياحي لم يكن منبهرا بأحد. يحكي المعلومات بلغة إنجليزية لا تخلو من لكنة هندية محببة، ويسرد الأرقام كأنه موظف في المجلس الأعلى للحسابات، ويشرع في الإشارة بأصبعه إلى الكتابات والآيات على الجدران ويذكر السياح بضرورة ارتداء جوارب من البلاستيك قبل دخول البوابة الضيقة حفاظا على نظافة القصر. ورغم أنه يردد أن تصوير الضريح ممنوع، إلا أنه لا يحرك يده بكسل في اتجاه السياح إلا بعد أن يكونوا قد التقطوا صورة أو اثنتين، ولا أحد يطلب منهم مسح الصور الممنوعة.
في حديث جانبي مع المُرشد بعد انتهاء الجولة التي تستغرق قرابة الساعتين، يعود منها الجميع منهكين، طاف بنا الحديث إلى التاريخ والأديان. وبما أننا كنا في الهند، حيث توجد ديانات كثيرة ولغات متعددة، فقد كان الحديث حول تنوع الأديان غنيا، لولا أن المُرشد السياحي قتل الموضوع بنبرة اللامبالاة نفسها التي كان يتحدث بها منذ البداية. إذ عقّب على كلامي ببرود: «يا عزيزي القادم من المغرب. صدقني سوف أخبرك حكمة قالها لي والدي منذ كنت طفلا ألهو على جنبات هذا الوادي أمامك. في العالم كله ليس هناك إلا دينان اثنان: الفقر والغنى». وتركنا في موجة من الضحك.
في نهاية الزيارة إلى تاج محل مساء، لا يسعك إلا أن تستعيد لحظات احتكاك الأكتاف مع أناس لا تعرفهم ولم تخطط لرؤيتهم يوما، وربما لن يُكتب لكم أن تلتقوا مرة أخرى نهائيا. كل ما هناك أنك دخلت معهم غرفة قديمة عمرها أربعة قرون وأكثر، جئتم إليها جميعا بالفضول نفسه.
عندما تتجه الشمس نحو المغيب في «أكرا» التي تعيش على إيقاع كل ما هو قديم، تصادف قرب الوادي محلات لحرفيين هنود يصنعون مجسمات رخامية لتاج محل «مُصغّر» يُقبل عليه السياح بكثرة. لا شيء تغيّر في هذه المدينة، إذ إن أحفاد الذين قضوا ثلاثين سنة من أعمارهم وهم يشيدون تاج محل، يقضون الآن حياتهم في صنع مجسمات صغيرة للبناية التي التهمت أجدادهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى