شوف تشوف

الرأيالرئيسية

ديكتاتورية الأوهام

 

 

بقلم: خالص جلبي

 

الوهم لا يعني الحقيقة، فهذه حقيقة أولى، ولكن هذه الحقيقة وهم. فليس هناك أكثر استبدادا من الأوهام بعقول الناس. وأوحت إلينا الثقافة أن من يمشي في المقبرة ليلا يرتعش خوفا، مع أنها أكثر الأماكن أمنا، ومن يرقد فيها أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون. ويُعلم الطلاب في المدارس أن المخابرات مثل ملائكة العذاب منكر ونكير. ويعتقد كل مؤمن على ظهر البسيطة أن دينه أفضل الأديان، وأنه اعتنقه بعد طول تفكير واختيار لا مجال لذرة إكراه فيه، وأن الآخرين لهم سوء الدار.

وأتذكر من طفولتي عندما كانت تروي جدتي عن اليهود الموجودين في حارتها كيف كانوا يكفنون الميت فيلفونه بشاش طويل، ومع كل لفة كانت النادبة تصيح «اشهدوا أنه لم يخرق الشريعة الموسوية. اشهدوا أنه ما أطاع مسلما». ونحن في ثقافتنا بالمقابل كنا ننطق جملا لا نفكر فيها، فمن يجرح أصبعه كنا نتندر عليه ونقول: أصيب بهذا يهودي فمات، أو كنا نحتفل بالعيد ونحن صغارا فنشتم آل البيت من حيث لا ندري، فنردد أهزوجة: «أن عليا مات وخلف بناتا مثل القرود»، كرم الله وجهه.

ونحن نعلم من ثقافتنا المريضة أن الإمام علي بقي يلعن على المنابر أكثر من سبعين سنة، حتى أبطلها عمر بن عبد العزيز، حينما استبدلها بالآية «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى»، فكافأه بنو أمية بجرعة سم قاتلة.

والقرآن يذكر هذا الصراع المرير بين أهل الكتاب أن الجميع يفترضون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء، والمسلمون اليوم يقولون: ليست اليهود ولا النصارى على شيء. ويُرجع القرآن المرض إلى طبيعة المرض الواحدة «تشابهت قلوبهم». والمسلمون هم أهل كتاب وليست عندهم حصانة ضد أمراض أهل الكتاب، وتحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون. فهذا اللون من التصور يقع فيه الجميع، فيظن (الشيوعي) أن الجدلية المادية هي التفسير (العلمي) الوحيد للتاريخ.

ويرى «فوكوياما» في كتابه الجديد عن الثورة البيولوجية أنها (نهاية الإنسان)، بعدما ختم على التاريخ في كتابه «نهاية التاريخ». وفي الصين كان قدم الطفلة يربط بحيث يحافظ على طول عشرة سنتيمترات، فهي أشهى للرجل وأسرع في الزواج، فلا تقدر على المشي بقية حياتها. وفي الريف تقتل الفتاة الخاطئة دون الذكر بيد أخيها وأبيها، بشريعة الفحولة أكثر من العدالة، وبنص من الواقع يلغي نص القرآن بالمساواة في العقوبة للجنسين. وفي العالم الثالث ترفع أصنام كثيرة لبشر فانين، اعتبروا آلهة تمتلك الموت والحياة والوظيفة والرزق.

ومن صفق في المظاهرات ليس غبيا ولا ينقصه الذكاء والفهم، بل هم بشر مثلنا استولى على عقولهم أن هؤلاء الزعماء مفاتيح التاريخ. ولو سألت أحدهم عن عصمته، لقال: إنه الزعيم الملهم الذي أتى بعد الإسكندر الأكبر وقورش العظيم وهانيبال القرطاجي، ولن يأتي رابع بعدهم مثل رابع المستحيلات في أمثال العرب.

وعندما لا نفهم كيف يعمل المجتمع في صناعة الفرد تزيغ عنا الحقيقة فتغتالنا الأوهام؛ فالمجتمع يعطينا اللغة فيحجرنا فيها، ويعطينا الجينات فتصبغنا بصبغتها، ويخلقنا بشرا فنتعلم النطق، وبدونه نتحول إلى أسوأ من الذئاب. ومن المجتمع نمتص الدين فنتسربل به وتلبسنا العادات لبسا. وتتشكل التقاليد، وفق آليات تدمدم في ظلمات اللاوعي. نحن خلقناهم وشددنا أسرهم. فمن يولد في طهران يجب أن يكون شيعيا أو شيوعيا، ومن يولد في نجد ربما كان سلفيا أو علمانيا، فحيث التطرف يولد التطرف المضاد. وعندما اشتدت الرهبنة في أوروبا، انفجرت الإباحية ومعها الإيدز. ومن يولد في التيبت يكون في الغالب من جماعة الدالاي لاما، يلبس الأصفر ويقرع الصنج ويحرق البخور لبوذا.

وربما هناك بعض الشذوذ عن هذه القاعدة في الغرب، بسبب تحرر المجتمع من أصفاد التقليد، فيغير الإنسان دينه كما يخلع ملابسه وربطة عنقه. وعندما وقع «كات ستيفنز»، المغني البريطاني، في المياه الباردة، استيقظ ضميره واطلع على القرآن فغير دينه، ويقع الناس في الشرق يوميا في المياه الحارة والباردة ويمرضون كل لحظة بأفظع الأمراض، فلا يغير أحدهم دينه، لسببين: تحنط الثقافة، والخوف من القتل بتهمة الردة. ومع أن الإسلام نظام حيوي ولا يوجد فيه شيء اسمه قتل المرتد، ويعتمد حرية الفكر اعتناقا وتركا، ولا إكراه في الدين دخولا وخروجا، إلا أن الثقافة عندها قدرة أن تمحو أي كتاب وتضع كتابا جديدا من حيث لا يشعرون. ويطرح الوردي تساؤلا خطيرا، فيقول: لو كان أحدنا زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتعرض للضرب بالحجارة في الطائف، أين سيكون موقعنا هل مع الضاربين، أم المضروبين؟ إنه سهل أن نقول اليوم: «فداك نفسي يا رسول الله»، ولكن رسول الله في ذلك الوقت لم يكن رسولا في نظر غالبية المجتمع، بل صابئا وكاهنا ومجنونا وساحرا وشاعرا تتربص به ريب المنون.

 

نافذة:

عندما لا نفهم كيف يعمل المجتمع في صناعة الفرد تزيغ عنا الحقيقة فتغتالنا الأوهام فالمجتمع يعطينا اللغة فيحجرنا فيها

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى