دبلوماسية.. لا حروب
عاطف الغمري
هناك شخصيات متعمقة في تقييم الأحداث الكبرى من أزمات وحروب، يهتم بمتابعتها حتى المختلفون معهم في الرأي، ومنهم من تتفق كثير من مراكز الفكر السياسي في العالم على تفرد رؤيته للأحداث الدولية، وتوقعاته لنتائجها مستقبلا.
أتحدث هنا عن، أرود جيرارد، السفير الفرنسي السابق في أمريكا، وفي الأمم المتحدة، والضيف واسع الانتشار في منتديات المناقشات السياسية، والإقبال على نشر مقالاته في العديد من صحف العالم، واستضافته في شبكات التلفزيون باعتباره خبيرا متميزا في قضايا الشؤون الخارجية، وكونه عضوا أساسيا في عدد من المراكز البحثية منها، على سبيل المثال، مجموعة الأزمات الدولية Trustee، ومركز «أتلاتنيك كونسيل» للبحوث السياسية، وغيرهما.
وطوال العامين الماضيين ذاعت آراؤه وأحاديثه، ليس لمتابعين عاديين فقط، بل أيضا لكثيرين من صناع قرار السياسة الخارجية في واشنطن، حتى لو لم يكونوا متفقين مع آرائه. حتى إن صحيفة «بوليتيكو» الأمريكية قالت إن آراءه كانت تحدث أحيانا رد فعل هستيري، خاصة ما يتعلق بتشخيصه للمفاهيم السياسية الأمريكية.
وينطبق ذلك على قوله: «إنني لا أعتقد أن الأمريكيين سيغيرون من سلوكهم، فهم يعتقدون أنهم منارة الحرية للعالم». وأيضا ما جاء في حديثه مع المركز الأمريكي للدراسات السياسية «كوينسي»، في نونبر الماضي، من انتقاد لنظرة الولايات المتحدة للنظام العالمي، وأنه يتأسس على السيطرة الغربية، في حين أن سيطرة الغرب كانت نتيجة لشكل ميزان القوى عام 1945 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهو الميزان الذي تغير، ولم يعد قائما على حالته القديمة نفسها، ثم إن طول زمن الهيمنة الأمريكية كان لا بد أن يدفع بقية العالم، وبصورة متزايدة، إلى معارضة انفراد الولايات المتحدة بالتصرف في شؤون تخص جميع دول العالم.
وحدث حين استضافته المؤسسة الفرنسية – الأمريكية المختصة بإدارة حوارات بين شخصيات قيادية من البلدين لمناقشة حول حرب أوكرانيا، فإنه سئل عما إذا كنا نحن في الغرب، نقلل من أهمية تصاعد المشاعر المضادة لنا في بقية دول العالم؟ فأجاب بالإشارة إلى واقعة كان عاصرها بنفسه، وقال: لقد اكتشفت أثناء عملي سفيرا
في الأمم المتحدة، زيادة مشاعر الاستياء التي كان يعبر عنها سفراء من دول العالم الثالث، ضد الغرب عموما. خاصة أنهم يرون أن الغرب يتعامل بازدواجية مع قضاياهم، وليس أدل على ذلك من غزو أمريكا للعراق عام 2003، وقضايا أخرى عالقة من دون حل في الشرق الأوسط.
الواضح أن آراء أرود جيرارد تلقى انتشارا واسعا في الولايات المتحدة، رغم أنها تتخذ مسارا يختلف مع الكثير من المفاهيم والتوجهات، سواء على مستوى النخبة، أو في دوائر الحكم. فلأكثر من مائة عام، ظهرت في الولايات المتحدة مراكز الفكر السياسي Think Tanks، باعتبارها جزءا من صناعة السياسة على مستوى النخبة المتخصصة، بحيث تكون مكملة لمن يتحملون تلك المسؤولية في إطار الحكومة، بوزرائها المختصين، خاصة الخارجية، والدفاع، والرئيس في البيت الأبيض، ومعاونيه في مجلس الأمن القومي.
في هذا الإطار التقليدي الذي ما زالت له جذوره في أرضية النظام السياسي، كانت الفرصة متاحة للانتشار واسع النطاق لأفكار أرود جيرارد، وليجد له بيئة مواتية يطرح فيها آراءه على تلك الصورة، حتى لو جاءت على غير هوى الإدارة الأمريكية الحالية.