داء العطب قديم
يونس جنوحي
بسبب الوباء، أو بفضله والله أعلم، تراجع النقاش المقلق حول الأمراض الموسمية والعدوى التي لا تزال تفتك بالناس منذ مئات السنين.
الحصبة والسل و«الكزيمة» والزكام وأمراض العيون والأمراض الجلدية، كلها أوبئة حقيقية لديها ضحايا موسميون تلتزم معهم كل سنة. وحسب منظمة الصحة العالمية، التي لم يعد لديها أي شغل الآن سوى وباء «كورونا» المستجد، فإن هذه الأمراض تفتك بالملايين سنويا حول العالم وتظهر أغلبها في موسم الشتاء. باستثناء بعض أمراض العيون والأمراض الجلدية التي تنتقل عبر الهواء أو مياه الشرب أو تلوث الغذاء، والتي تظهر في فصل الصيف أو مع انتشار بعض أنواع النباتات في فصل الربيع.
هذه الأمراض جميعا، لديها ضحايا كل سنة، فاق عددهم سنويا أرقام ضحايا كورونا منذ انطلاقها. وفي فبراير المقبل، سوف تصدر تقارير جديدة للجان تابعة لمنظمة الصحة العالمية لكي تضع لنا إحصائيات جديدة لوفيات وإصابات الأمراض التي تعيش مع الإنسان قبل اختراع الهواتف والسيارات وحتى القطار البخاري. ورغم التقدم الطبي الحاصل ووصول الإنسان إلى الفضاء وثورة المعلوميات، فإن هذه الأمراض والأوبئة لا تزال منتشرة.
حتى في الدول التي توفر لمواطنيها الولوج للخدمات الصحية وتجعلها إجبارية، لا تزال عدوى فطريات الجلد والحمى المؤدية إلى الوفاة منتشرة بكثرة. ودائما ما نسمع عن وفيات في دول متقدمة بسبب الحمى، رغم التدخل الطبي العاجل. وهذا المعطى، حسب منظمة الصحة العالمية، راجع إلى ما أسماه الخبراء: توفر بعض الدول على مناخ ومحيط طبيعي يشجع على استمرار ظواهر انتشار النباتات السامة وملوثات المياه.
أما في المغرب فلا يزال الناس يموتون بسبب لدغات العقارب والأفاعي، ويقطعون مئات الكيلومترات للوصول إلى مستشفى غادره الطبيب الإقليمي احتجاجا على عدم توفر الإدارة على الإبر والمعدات البسيطة لإجراء العمليات الجراحية.
وهذا النقاش عمّر داخل البرلمان أكثر مما عمره أغلب النواب، ولا زلنا منذ تأسيس هذه المؤسسة نسمع عن مشاكل الصحة في المناطق النائية في الشمال والجنوب بل وحتى في قلب الدار البيضاء، المفترض أنها معقل تطور الخدمات.
باقتراب دجنبر، سوف تسمعون بدون شك عن النساء الحوامل في نواحي الأطلس الكبير والمتوسط، وطريقة نقلهن فوق ظهور البغال بل وعلى «حمالات» الموتى على ظهور الرجال لإيصالهن إلى الطريق الوطنية وانتظار مرور الحافلات والشاحنات لنقلهن إلى الولادة في المستشفيات العمومية.
هناك طبعا بعض النقط المضيئة، ويسجلها الذين عاشوها بفخر يعيد الثقة إلى الإدارة العمومية. هناك أطر يكابدون لكي يعالجوا المواطنين وينقذوا الأرواح بإمكانيات قليلة. بينما هناك في نفس الوقت حالات مؤسفة للإهمال الطبي أو الأخطاء الطبية بسبب كثرة الملفات وعدم وجود ما يكفي من الأطباء لدراسة الحالات.
منظمة الصحة العالمية لا تعرف كل مشاكل الصحة في المغرب، ولهذا السبب تصنفنا في أسفل الترتيب طيلة سنوات. وربما لو شمل التقرير السنوي الذي تعده دراسة ميدانية للحالات والخدمات، لربما تغير موقع المغرب في سلم الخدمات الصحية، لأن هناك أطرا طبية يستحقون منا كل التقدير. هل تتخيلون أن طبيبا ينقذ الأرواح كل يوم باستعمال أدوات تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي؟
هناك اليوم أطباء يقفون في غرفة العمليات لساعات متواصلة ويعرضون حياتهم وحياة عائلاتهم للخطر، ويجرون هذه التدخلات الطبية في أجواء تشبه كثيرا أجواء الحروب الأهلية، والفرق الوحيد بينهم وبين أطباء المناطق المنكوبة هو القذائف والرصاص. يعملون في ظروف صعبة ويجرون عمليات جراحية لمواطنين يحضرون معهم الخيط والإبرة وكمية من البنج وكيسا من الدم، بل وحتى البطانيات لكي لا يشعروا بالبرد.
هناك ما هو أخطر من كورونا، و«داء العطب قديم» كما يقال. وقد تذهب كورونا التي شلت العالم، ويبقى السعال والحمى الموسمية. والله أعلم.