خزن المال في التوقيت والمكان غير الملائمين
أشار إلي صديق جمعتني إليه أيام «الصعلكة» التي لا تنسى، بأنه تعرض أيضا إلى نسيان الخزن الذي أصله المخزن، أي المكان أو «المطمورة» التي كانت توضع فيها مواد المؤونة، من دقيق وزيت وزيتون وعسل، قبل غزو آلات التبريد. ووجدت أن الخزن أنواع، منها ما هو ظاهري، كما في حالات تخزين القات عند اليمنيين الذي يظهر جليا على إحدى الوجنتين، ويقاس بدرجات مكوثه في الفم، وما هو باطني يريد الناس الإبقاء عليه بعيدا عن العيون.
ولولا ظاهرة الخزن التي ترافق الإنسان، خصوصا في فترات الشدة والحروب والخوف من الجوع، لما تناسلت حكايات الكنوز التي يُعثر عليها في باطن الأرض، إذ تكون في الغالب عبارة عن مخزن الذهب والفضة والنقود، أو تنجم عن الحروب التي تفني المتحاربين، وتتولى الطبيعة خزنها عبر عوامل التعرية والحفر.
قال الصديق إن خادمة البيت فاتحته مرة بأنها عثرت على حزمة بداخل الجزء العلوي من الثلاجة، لم تكن سمكا ولا لحما ولا خضرا. ومن أجل إشباع رغبة الفضول وضعتها في إناء ماء كي تتحلل من الثلج الذي علق بها. ولم تصدق نظرها حين ذاب الثلج وانكشفت أوراق مالية من فئة المائة درهم، وما كان منها إلا أن أبلغت ربة البيت بالواقعة الغريبة.
مجمل الحكاية أن ذلك الصديق عاد إلى بيته متأخرا، ومن أجل تلافي تفتيش جيوبه، أخرج حزمة أوراق نقدية لخزنها في مكان لا تصله الأيادي. شعر بحركة داخل البيت فسارع إلى وضعها في أقرب مكان.
تظاهر بأنه بصدد إعداد قهوة ساخنة أو البحث عن كوب ماء بارد، أو تسخين بعض الطعام. خفت الحركة خارج المطبخ، فنزع حذاءه ومشى على رؤوس أصابع قدميه في نفس الاتجاه الذي اعتاده، من دون إضاءة الممر الصغير. كان يعاود إنتاج نظرية باخلوف في غير الأكل، وإنما في مسطرة العادة التي أصبح لها نفس الحركات من فرط التكرار.
في الصباح فتش عنها فلم يجد لها أثرا، فقد نسي أين خزنها، كما نسي آخر لقطة قبل أن يأوي إلى فراشه متسللا. عاود تشخيص المشهد وحيدا، فتح الباب مع مراعاة عدم الإزعاج وتقدم خطوات نحو غرفة الأكل الذي تزيد شهوته في هكذا حالة. ألقى بنظرته على أواني المطبخ والرفوف وأي مكان يحتمل أن يكون أخفى فيه حزمة أوراقه النقدية، لكن بلا جدوى، فالغفوة كانت أكبر من طقوس الاستحضار.
بعلاقة بخزن ما يتبقى من المال في آخر الليل، اهتدى أحدهم إلى وضع بعض منه في خزانة خشبية في المطبخ، كان يعرف أنها آخر شيء يمكن أن يفكر أحد في تفتيش ما بداخله. بدا أكثر اطمئنانا إلى الملاذ الآمن، وذهب إلى فراشه مرتاح الضمير. تعمد في اليوم الموالي أن يستيقظ متأخرا لأن المناسبة كانت عطلة. بين الحلم واليقظة سمع بعض الجلبة داخل البيت، لم يأبه لذلك، وقد اقتطع لنفسه وقتا، خارج موعد الاستيقاظ.
عندما فرك عينيه، دلف إلى المطبخ، فلم يكد يصدق ما رآه: فالخزانة الخشبية غابت عن مكانها. تصور في بداية الأمر أن الخادمة حولتها إلى موقع آخر، لكن زوجته أخبرته وهي منتشية أنها تخلصت أخيرا من تلك الخزانة. فقد تواعدت مع بائع متلاشيات أن يأتي لأخذها في الصباح الباكر مقابل مبلغ زهيد. كيف لم تجد غير ذلك التوقيت للتخلص من الخزانة وما كان بداخلها؟ كتم الرجل غيظه، وسألها بلطف إن كانت تعرف اسم أو عنوان البائع.
صرخت في وجهه، بأنها لم تمتهن البحث عن أسماء وعناوين الباعة، واكتفت بالقول إن هؤلاء عادة ما يعرضون مقتنياتهم في «الجوطية». نهض من دون فطور، ارتدى ملابسه وراح يبحث عن بائع متجول اقتنى خزانة بما فيها. كان وحده يعرف أن ثمن الخزانة أغلى بكثير مما دفعه ذلك البائع ذو الحظ الحسن. وأيقن باستسلام أنه وضع ما كان يريد خزنه في المكان الخاطئ وفي التوقيت غير الملائم.
تتغاير وتتنوع حكايات النسيان، غير أن زميلا لم يحضر إلى العمل مبررا ذلك بأنه نسي سيارته. خطر بالذهن أنه تركها في المرأب وامتطى القطار الذي يصل إلى موعده متأخرا. أو أنه ركنها في مكان غير مخصص لوقوف السيارات فجاء من يحملها إلى «مخفر» احتجاز السيارات، والحقيقة أنه فتش عنها في أي مكان محتمل بدون جدوى.
اعترف بأن سيارته لم تسرق منه، ولم يسط عليها أحد، لكنه لم يجدها طوال عملية بحث شاقة. قال أيضا إنه ركنها في زقاق ومضى إلى سبيله، مستشردا بجلسة أصدقاء كان على موعد معهم. تمددت الجلسة على قدر ما يدور فيها من نقاش ونميمة وما شابه ذلك. وعندما تفرق الجمع وجد نفسه وحيدا في يده مفاتيح سيارة، اختار بعد عناء أن يسجلها كمفقودة، في انتظار أن يرمي بها البحر الذي يرفض أن يبقى في أحشائه ما لا يلائم طبعه وهديره.
في الغد جرب أن يعاود ترسيم حلقات الطرق والزوايا التي سلكها. بدأ بالاحتمال المعتاد، حيث تعود أن يوقف السيارة، فلم يعثر عليها. جرب أن يأتي إلى نفس الشارع من كل تفرعاته بلا جدوى. غير أن حارسا نبيها للسيارات رأى حيرته، فجاء يسأله: لماذا لم تعد لأخذ سيارتك؟ استفسره: وأين هي؟ فدله عليها واقفة في نفس المكان. فأدرك الزميل أن السير على الأقدام ليس مثل ركوب السيارات. ومن وقتها قرر ألا يبحث عن سيارته إن هي فقدت، إلا عبر ركوب سيارة أخرى. فالعربات تدل على الطريق أكثر من عيون البشر.