حصار فيينا الثالث عام 1683م
أثناء إقامتي في ألمانيا قمت بزيارة لقلعة أثرية في جنوب ألمانيا، ولفتت نظري لوحة جميلة تخلد معركة عسكرية، وبينما كنت أتأملها انتبهت إلى العمائم تغطي الرؤوس في أحد الجانبين المختلطين ببعضهما بين السيوف والدماء والأشلاء والقتلى، وعندما دققت النظر أكثر علمت أنها تخلد معركة أسوار فيينا المحاصرة من قبل الجيش العثماني يوم 12 سبتمبر من عام 1683 م.
في هذا اليوم العصيب وجه الوزير العثماني الأعظم إلى أهل فيينا الرسالة التالية، حسبما حفظتها الوثائق العثمانية التي تعود إلى زمن السلطان محمد خان الرابع والتي نشرت في الكتاب الضخم عن مسلسل الرحلة البشرية عبر التاريخ (CHRONIC DER MENSCHHEIT = CHRONIC THE HUMANKIND)
(إنني وبعزة الله وكرامة الرسول وولد القمرين الذي له كل الرفعة والفخر. أنا قائد جيش السلطان العثماني الأعظم، ملك ملوك الأرض. أقول لكم ولقائد النبلاء في فيينا الجنرال ستارهمبرغ. لتعلموا أنني وبأمر من سيدي الأكثر احتراماً وتقديراً، الأقوى، والأعظم والذي لا يقهر. والذي جئتكم بجيشه اللجب حتى مدينتكم فيينا هذه من أجل ضمها إلى مملكته. إن استسلمتم له فبإمكانكم أن تنسحبوا بكل أشيائكم صغيرها وكبيرها. ومن يرغب في البقاء هنا صينت ممتلكاته. أما إن عصيتم وامتنعتم عن التسليم، اقتحمنا عليكم مدينتكم وقطعنا كل صغير وكبير بحد السيف. أنكم تعلمون نبالة سيدي التي يرعى بها رعاياه وسيفعله لكم، والسلام لمن أطاع وامتثل).
في صباح ذلك اليوم من خريف عام 1683 ميلادي الموافق لـ 20 رمضان من عام 1094 هجرية حصل انعطاف نوعي في تاريخ القارة الأوربية، وقفزة قلبت ميزان القوى، الذي لن يعتدل بعدها مطلقاً بين القوة العظمى العثمانية والدول الأوربية، حيث اندفع الملك البولوني يوحنا الثالث سوبيسكي (JOHANN III SOBIESKI) وبقيادة شخصية منه مباشرة، على رأس وحدة من الخيالة المدربة كرأس حربة، وبجيش نجدة بلغ 65000 جندي قدموا من بولونيا، لفك الحصار عن مدينة فيينا التي كانت ومازالت تمثل قلب أوربا، ولم تكن هذه هي الحملة العثمانية الأولى على فيينا فقد سبقتها حملة أخرى في عام 1663م.
كانت الحملة العثمانية الثانية لدخول قلب أوربا تمثل اختراقاً نوعياً، كما تمثل بنفس الوقت قمة الاقتحام العثماني للأرض الأوربية، إلا أنه فشل وكان هذا يعني بكلمة ثانية انكسار المخطط بغير رجعة، لأن مسلسل التراجع العثماني سوف يستمر في القرنين التاليين حتى تدخل الدولة العثمانية (العناية المركزة التاريخية) حيث سوف تسمى بعدها بـ(الرجل المريض) على ضفاف البوسفور، ثم سوف يموت هذا الرجل المريض (مرض الهرم أو السرطان الذي لن يرتفع بعد)، ويقوم بدور إعلان الوفاة ومراسيم الجنازة (دابة الأرض) المدعو (كمال أتاتورك) كما أَعَلنت من قبل دابة الأرض عن موت نبي الله سليمان عليه السلام (فما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) وبذلك تنفست الجن الصعداء عند موت النبي سليمان، كما تنفست جن أوربا أيضا الصعداء مع الخلاص من القوة العالمية الإسلامية الأخيرة (ولو في صورتها المأساوية المريضة).
وبذلك نحرر وبشكل جانبي أمرين على غاية الأهمية: الأول العامل الداخلي هو الذي يلعب الدور الحاسم في إبراز الحدث إلى السطح، والثاني تفاهة الدور الذي لعبه كمال أتاتورك، فهو لم يقتل أو يلغي الخلافة العثمانية وهو أحقر وأضعف من دابة الأرض المذكورة في الآية، وإمبراطوريات عريقة هيهات أن تسقط بأمثال أتاتورك.
إن أتاتورك لم يفعل أكثر من إعلان الموت وتوزيع بطاقات النعي، والسير في خشوع في جنازة الدفن الأخيرة، وغورباتشوف أيضاً لم يفعل أكثر من هذا الدور مع الامبراطورية السوفييتية.
في محاولة لفهم (السنن التاريخية) التي عني القرآن بها أكثر من السنن البيولوجية، وأكثر من السنن الفيزيائية، وأعطاها صفة الديمومة والاستمرار على وجه ما، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
لقد اقتحم العلم وارتاد فضاءات جديدة هائلة منها الفضاء التاريخي والحضاري، فكما استطاعت الجيولوجيا وبواسطة الكربون 14 وعن طريق (استنطاق) حلقات الشجر التي تعمر القرون الطويلة، لتعرف ماذا حدث في الكون منذ قرون عف عليها الزمن واندثرت مع اندثار الذاكرة البشرية. نفس الشيء حدث مع (نكش ونفض) الحفريات لحضارات لم تعد تذكر في التاريخ (كما هو الحال في الحضارة الآشورية ذات النزعة الحربية التي أذاقت شعوب الجوار أصناف الويل والدمار ثم طواها التاريخ فهل تسمع لهم رِكزا؟!).
كان الاختراق العثماني في حصار فيينا الثاني شبيها بالاختراق الذي قام به العرب قديما مع تجاوز جبال البيرنيه، بعد السيطرة على شبه الجزيرة الايبرية، عندما تحطم الامتداد العربي بدوره في المدى الأقصى الذي حاول تجاوزه، ولكن الفرق من جانب آخر كان كبيراً للغاية. وهو المسار الذي نريد دفع الأفكار باتجاهه مع هذه المقالة، فالعثمانيون كانوا يصارعون أوضاعا مختلفة للغاية، في القرن السادس عشر والسابع عشر عن الأوضاع التي كان العرب يتفوقون فيها في القرن الثامن والتاسع الهجريين.
بدأ حصار فيينا في الرابع عشر من تموز يوليو من عام 1683 م، وكان القيصر ليوبولد الأول النمساوي قد فر أمام الحملة العثمانية الرهيبة التي ضمت قرابة ربع مليون جندي مزودين بأفضل أسلحة ذلك العصر من المدافع والبنادق ذات الحشوة الواحدة، على ما جاء في الوثائق السلطانية من أيام السلطان محمد الرابع، حيث نقرأ صوراً من مجريات المعركة، في هدم أطراف من سور البلدة، أو ضرب مجموعة من الأعداء (مما عجل بروح 40 – 50 من هؤلاء الأوغاد إلى جهنم !!).
فشلت الحملة واندحر الجيش العرمرم، وأعدم الوزير الأعظم في بلغراد عاصمة الصرب الحالية في 25 ديسمبر من نفس العام 1683 م، في أعياد الميلاد المسيحية، وكان البابا إينوسنس الحادي عشر (INNOZENS XI) خلف التحالف المقدس الجديد، حيث اتحدت القوة النمساوية مع قوة من ساكسونيا، وقوة من بافاريا (سكسونيا وبافاريا مقاطعتان في جمهورية ألمانيا الحالية) بالإضافة إلى الجيش البولوني الذي ذكرناه سابقاً، تحت إمرة الملك البولوني يوحنا الثالث سوبيسكي. بل وأكثر من هذا حيث ختم السلطان العثماني محمد خان الرابع فترة حكمه الأخيرة التي دامت أكثر من أربعين عاماً بهزيمة أشد هولاً في السهل المجري في معركة (موهاكز في 12 غشت عام 1687 م) ذلك السهل الذي كان الجنود الانكشارية قد خلدوا فيه نصرهم الكبير قبل 160 عاماً.
ولكن ليست الذكريات ولا الأرض التي تمنح نصراً أو هزيمة، وإنما تغيير ما بالنفوس (سنة الله التي قد خلت في عباده)، حيث تم عزل الخليفة بعد ذلك ليموت في عام 1687م عن عمر يبلغ 53 عاماً قهراً وغماً، وليعين من بعده أخوه السطان (سليمان خان الثاني)
وتلك الأيام نداولها بين الناس.