حشاد: «في طريقي للمباراة تعرضت لحادث سير وكدت أتخلى عن حلم الطيران نهائيا»
نواصل دائما في ذكريات أحداث 20 غشت 1955 كما عشتها في خريبكة.
بعدما قضيت الليلة مختبئا تحت علبة كرتون، سرت في الغد وراء الناس الذين كانوا يتوجهون إلى جامع الحي فرأيت هناك مشهدا مؤلما حقا. مئات الأموات، كانوا يرتدون الجلابيب والبردات (السلاهم)، ممددين جميعا في الباحة. رأيت الحصاد المؤلم لقصف اليوم السابق. بعد صلاة الجنازة، حملت الجثث في شاحنتين إلى المقبرة ودفنوا جميعا في مقبرة جماعية. في اليوم نفسه انشغل الناس بحدث آخر، وهو مقتل ابن بائع «السفنج»، أمام عيني الأب. حيث اقتحم الجنود داره ووجدوا الطفلين مختبئين تحت السرير فقتلوهما. جن جنون الرجل وصار يمشي في طرقات المدينة ينادي عليهما. أُمر كل الشبان بحلق رؤوسهم وأغلقت النوافذ وصار كل شيء مراقبا. وكما كانت العادة، قام المستعمر باعتقالات واسعة في صفوف الوطنيين، وكانت عائلة الراشدي دوما في طليعة من يطول الاعتقال بعض أفرادها. تخلص صهري سي محمد بن الحاج حسن من مسدسه، وذلك بإلقائه في مجرى الواد الحار، واعتقل في تلك الليلة واعتقل أخوه أيضا بن العربي الحاج حسن. ولو لم تتمكن العائلة من تقديم أموال طائلة لبعض المسؤولين لتم إعدامهما بدون شك. وتم إطلاق سراحهما أياما قليلة بعد الانتفاضة.
لقد كنت شاهدا على التضحيات المؤلمة لأناس بسطاء حملوا أرواحهم على أكفهم وقاوموا بصدورهم العارية وصراخهم، المدافع والطائرات. أناس أحرقت براريكهم ومتاعهم وحقولهم واحتجزت قطعانهم ولم يهنوا ولم يتراجعوا. لقد كنت شاهدا على الأمور وعشت تفاصيلها في تلك الطفولة، ولن أنساها أبدا.
طيب لنعد الآن إليك أنت. أريد أن تخبرني عن المسار الدراسي الذي مهد لك لولوج عالم الطيران.
بعد أن عشت وسط دوامة هذه الأحداث الأليمة، انتهت العطلة الصيفية واقترب الدخول المدرسي وكان علي أن أعود إلى بني ملال. وبما أن حواجز المراقبة كانت كثيرة بين مدينتي خريبكة وبني ملال، فالتنقل عبر الحافلة كان مخاطرة غير مأمونة.
وكيف وصلت إلى بني ملال إذن؟
كانت لصهري الحاج بوعزة العبيد سيارة صغيرة بمقعدين ودكة وراءهما، أركبني فيها وركبت خالتي إلى جانبه. في مدخل وادي زم أوقفنا دركي، فقدم إليه الحاج أوراق السيارة وأخبره بأنه يوصل ابنه إلى داخلية بني ملال. اجتزنا حاجزين آخرين ووصلنا سالمين. بدون هذه المخاطرة الكبيرة من صهري، ربما كنت لأنقطع عن الدراسة..
كيف بدأ حلم الطيران معك؟ هل كنت تخطط له مسبقا؟
منذ طفولتي البعيدة حلمت بالطيران وبالتحليق في سماء قبيلتي ورؤية كل شيء تحتي صغيرا. كنت مفتونا بتحليق أسراب طائر البقر. كنت مفتونا أيضا بخفة امتلاك السماء، وملاعبة الغيم واعتراض الريح. حلمت في ليالي كثيرة بوجود نوابض تحت قدمي أضغط عليها لتقذفني في السماء البعيدة، وأضغط عليها مجددا فترسلني إلى سماء سوداء. كان هذا السواد يجعلني أرتعد خوفا وحين أستيقظ تكون ضربات قلبي قوية متلاحقة. لاحقني هذا الحلم في دراستي الابتدائية والثانوية أيضا، وحتى اليوم ما زلت حائرا في أسباب تمكن حب الطيران من فتى متحدر من قبيلة بالكاد كانت تخرج من القرون الوسطى، ولم تكن تعرف عن التكنولوجيا إلا الحافلات والسيارات العابرة للطريق التي قسمت القبيلة إلى قسمين.
كيف أوصلتك مدرسة «الضيعة» التي قلت إنها كانت وسط «فيرمة» إلى مدرسة الطيران؟
نلت شهادة السلك الأول، وكان يصطلح عليها بـBEPC من مدرسة الضيعة. كان بعض الشبان اليهود يأتون بالحافلات لاجتياز امتحان الكفاءة الفلاحية من مناطق مختلفة، وأعتقد أن أولئك التلاميذ اشتغلوا بعد ترحيلهم إلى فلسطين المحتلة في «الكيبوتزات».
يعني كان ممكنا أن تتوجه نحو الميدان الفلاحي؟
بالنسبة إلي فقد حصلت على منحة دراسية، وتوجهت إلى الدار البيضاء وتحديدا إلى ثانوية مولاي الحسن لأتابع دراستي في السلك الثاني. وفي أحد أيام شهر فبراير 1957 دخل ملازم أول إلى قسمنا وخطب فينا قائلا، إن سلاح الجو المغربي في حاجة إلى ضباط ربابنة وسنكون أول من سيحلقون في سماء المغرب، وأول من يقودون الطائرة الملكية.
ترك هذا الكلام وقعا في نفسك؟
خرج الملازم وترك قشعريرة تسري في جسدي. لم يعرض علينا مسارا مهنيا فقط، بل إنه حرر بداخلي طوقا مكبوتا كنت أحار في فهمه وتفسيره. خرج وتركني أتمتم: «هذا ما حلمت به، هذا ما أحلم به..». بل إن نشوة سابقة لأوانها هزت قلبي الصغير وأنا أتخيل نفسي أقود الطائرة الملكية. والملك بجلاله ومهابته إلى جانبي واثقا في قدراتي. يومها كان قراري جاهزا.
أي أنك تريد بشدة أن تصبح طيارا، قبل أن نفصّل في أجواء دراستك للطيران. ماذا يعني الطيران بالنسبة إليك؟ من الصعب أن تلجه معتمدا على حلم فقط.
عندما كنت في مدرسة الضيعة في بني ملال، كنت قد عثرت على كنز حقيقي من الحكايات عن بطولات الطيران. كان أستاذ اللغة الفرنسية السيد شوفو طيارا سابقا، وعاش ويلات وآلام ومفاخر الحرب العالمية الثانية. وكان مسكونا بعالم الطيران، ويعرف رموزه وأبطاله وأحداثه الكبيرة، ويعرف أنواع الطائرات المدنية والعسكرية وقدراتها ولا يحلو له الحديث إلا عن ذلك.
إذن نفهم أن هذا الأستاذ ساهم بشكل كبير في صقل حلم الطيران لديك منذ المرحلة الابتدائية.
+لقد كان السيد شوفو «بطلي» داخل المدرسة. وصارت حكاياته عن المواجهات في السماء بين طائرات هتلر وطائرات الحلفاء وعن الطيران وسط الضباب، وأيضا عن الطائرات التي تضطر إلى النزول في أماكن غير مواتية هي متعتي. لم يكن السيد شوفو يعلم في حنينه هذا عندما يستسلم للحكي، بأن كلامه ذاك يتحول في قلب الطفل الذي كنته إلى مسار وعقيدة أيضا. لقد كان يمنحني، دون أن يدرك أو يحس، تجسيدا حيا لما كان يعتمل بداخلي وينبثق في شكل أحلام لذيذة ومرعبة في الآن نفسه.
أريد أن أقول أيضا إنني عندما رأيت الطائرات لأول مرة، في 21 غشت 1955 وهي تتعقب المنتفضين وتتصيدهم جماعات وأفرادا، شعرت بنشوة رؤية الطائرة بالرغم من مشاعر الخوف والأسى المرير. لقد أثر في منظر الطيار، وهو يظهر فجأة ويطلق النار ثم يمضي. تملكني إعجاب كبير بقدرة تلك الآلة الرهيبة على المناورة وامتلاك السماء واستعراضاتها الجوية.
طيب الآن وقد جاء ذلك العسكري إلى القسم في مرحلة دراستك الثانوية في فبراير 1957، وأخبركم بفرصة الالتحاق بجهاز الطيران. ماذا وقع بعد ذلك؟
تأهبت للذهاب إلى الرباط، لكي أشارك في امتحان ولوج أول فوج لسلاح الجو الملكي. كنت ألبس قميصا أبيض، وسروالا أسود، وكنت أحمل في يدي حقيبة. بعد توقف دام عشر دقائق، انطلقت الحافلة التي تربط بني ملال بالدار البيضاء مع غروب الشمس، وسارت تحت مطر خفيف بسرعة كبيرة. أتذكر جيدا قطرات المطر التي كانت تتراءى تحت الأنوار الكاشفة للحافلة.. كانت مثل نسيج يربط السماء بالأرض. نمت وصحوت ووجدتني مقلوبا رأسا على عقب. كان رأسي في الأسفل ورجلاي إلى الأعلى وسط
ظلام حالك.
انقلبت الحافلة؟
نعم انقلبت الحافلة. كانت خلفي امرأة تنتحب وتقول بالأمازيغية: «أيا أيمانو.. أيا أيمانو». كانت تستنجد بأمها وتتألم. بحثت لنفسي عن مخرج. وانتهيت خارج الحافلة بعد أن انفلتت من إحدى النوافذ. كان المطر يهطل دون توقف. كان هناك جرحى يتأوهون بجانب الطريق وهم ينتظرون الإسعاف. كان هناك أيضا حشد من الفضوليين الذين جاؤوا لمشاهدة الحادث. وأخيرا جاءت سيارة الإسعاف ونقلت الحالات الخطيرة إلى أقرب مستشفى.
في أي مكان بالضبط كنت؟
الحادثة وقعت قرب مدينة برشيد.
نفهم أن بداية تحقق حلم الطيران لم تكن سعيدة أبدا. هل هذا فأل سيئ؟
في الحقيقة سألت نفسي هذا السؤال أيضا. وأنا واقف بجانب الطريق يومها، تساءلت ألا ينبغي عليّ أن أعود على عقبي، أم أواصل لاجتياز الامتحان في الرباط، أم أتوقف في الدار البيضاء في ثانوية مولاي الحسن لأواصل دراستي الثانوية بشكل عادي كما كنت؟
تراءت لي خالتي وهي تلح علي بأنها لن ترضى عني أبدا إن أنا دخلت الجيش، تذكرتها وهي تدعوني لأن أتطلع لمستقبل أفضل كمهندس أو طبيب. تذكرت أيضا أساتذتي في الثانوية. كانوا كلهم قد أجمعوا على أنني سأتخذ القرار الخاطئ إن أنا التحقت بالجيش. لقد كانت تلك اللحظة التي توقفت فيها بجانب الطريق تحت المطر الخفيف الذي بللني، والأفكار الكثيرة التي تتصارع بداخلي، وسط الظلام الحالك، فارقة في حياتي.
الطيران هو الذي قادك لكي تعيش انقلاب الطائرة الملكية سنة 1972، وهكذا ذهبت إلى تازمامارت. ألا ترى أن الحادثة كانت فعلا إشارة سيئة؟
لقد تذكرت تلك الحادثة عندما كنت في تازمامارت. لو أنصت لخالتي وأساتذتي ويد القدر التي رتبت الحادث في منتصف الطريق، لتهبني مجددا فرصة للتفكير والتأمل وتمحيص ما كنت مقدما عليه، لو اتخذت وقتها القرار الصائب وأعرضت عن حلم الصعود إلى السماء..
تسميه القرار الصائب، أي أن اختيارك للطيران لم يكن صائبا؟
هذا ما فكرت فيه بتازمامارت. قلت في نفسي إنني لو عدت أدراجي ولم أذهب إلى الرباط لاجتياز مباراة الطيران، لكتبت لي النجاة من النزول إلى ذلك الجحيم.
لكنك اخترت الاستمرار في الرباط.. وأصبحت طيارا.
رغبتي كانت قوية جارفة. فوسط ذلك المشهد تحت المطر والتأمل، توقفت حافلة أخرى، وصعدت إليها بخفة وتصميم كأنني لم أكن محتارا بين مسارين، بشأن الاستمرار في ملاحقة حلم الطيران أو العودة.
أنا أعتقد أنه لم يكن لي الاختيار يومها. الحياة هي التي زرعت فيّ أحلاما مجنحة عن الطيران، وزرعت فيّ أيضا السيد شوفو Mr. Chevau وحكاياته، واستعراض القوة الذي رأيته في خريبكة، والملازم الذي بشرنا بقيادة الطائرة الملكية. هذه المؤشرات هي التي انتصرت.