جنازة ناخب وطني

حسن البصري
غاب عبد الخالق اللوزاني عن التدريب وحجز لنفسه كرسيا في الواجهة الأمامية لمقهى فرنسا في مدينة الصويرة مسقط رأسه وقلبه. اكتفى بالتحليل المجاني لمباريات الكرة، وإعطاء دروس مجانية في الكرة الرجولية قبل أن يختفي عن الأنظار بسبب وباء «كورونا» الذي أنهى حياته في غفلة من الجميع.
يموت المدرب فيرسل الفريق حافلة النادي إلى المقبرة لنقل المشيعين، ويكتب المسؤول بلاغ تأبين يعدد مناقب الفقيد، وفي أحسن الأحوال يعطي تعليماته بتحمل نفقات الجنازة. يرحل المدرب إلى دار البقاء فيسأل زملاؤه عن آخر شواهده في التدريب، ويسأل حفار القبور عن الراعي الرسمي للجنازة، ويسأل هواة السير خلف الجثامين عن أفراد أسرته، ويسأل الصحافيون عن صديق للفقيد لازال يحمل في ذهنه أشلاء ذكريات صالحة للنشر.
المدرب كائن يموت ويحيا عشرات المرات، وغالبا ما ينتهي به المطاف في مقهى يحتسي فيها قهوته السوداء، وهو يلعن تصنيفات شواهد الكاف وجحود اللاعبين وجشع المسيرين ومكائد زملائه المدربين وضعف ذاكرة الصحافيين.
لكن اللوزاني لم يكن مدربا يشرف على تدريب لاعبي المنتخب الوطني حين كلف بالبحث عن خلف لجيل انتهت صلاحيته، بل تعرض في زمن سنوات «قلم الرصاص» لترويض من طرف وزير الرياضة عبد الواحد بلقزيز في بداية التسعينات.
طلب منه تغيير تشكيلة المنتخب المغربي وانتزاع تأشيرة العبور لمونديال الولايات المتحدة الأمريكية لسنة 1994، صدق كلام بلقزيز وبعد أيام تبين له أن الناس يهتمون بتشكيل المنتخب أكثر من التشكيل الوزاري، لأن المنتخب قد يغير الخطة ويحقق الفوز لكن التشكيل الوزاري لا يغير الخطة ولا يحقق الانتصار ولا يزرع الابتسامة في وجدان الشعب.
فهم اللوزاني الدرس جيدا وتبين له أن المدرب الحقيقي هو بلقزيز وأن الكولونيل الحسين الزموري مدرب مساعد مكلف بجبر خواطر اللاعبين، وأنه يحمل صفة مدرب الفريق الوطني خلال تسعين دقيقة وما تبقى من زمن فهو للعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم. وحين انتزع تأشيرة العبور للمونديال علم الرجل بقرار إقالته في نشرة الأخبار المسائية واختار لنفسه الإقامة الجبرية في الصويرة بعيدا عن صخب الملاعب وهو يردد «حسيبك للزمن لا عتاب ولا شجن»، بعد أن اقتنع بأن الدولة تبحث عن مدرب من فصيلة الرخويات، لا يمانع في صنع تشكيلة فريقه في ديوان الوزير أو ثكنة الجنرال.
كان عبد الخالق عنيدا كالصخر، لا يقبل أنصاف الحلول، كان يتصدى للمتهورين بقرارات زجرية ويترك الباقي على جلسات الاستئناف، كان يهرب إلى «تاصورت» كلما داهمه القلق فيعالج أعراض الغضب وداء السكري برائحة العرعار وأنغام لمعلمين صناع الحال وسمك موسى. في الصويرة حاول الرجل عبثا إغلاق النافذة التي تأتي منها الريح كي يستريح لكن في مدينة الرياح يصبح هذا المثل في مهب الرياح.
كثير من لاعبي المنتخب كانوا يخشون غضب اللوزاني، ومنهم من ظل يعتقد أن الناخب الوطني صاحب التقاسيم الصارمة في الملعب يلعب دور الشرير في أفلام جيمس بوند، لكن المقربين منه يعرفون أن الرجل يملك قلبا عامرا بالخير والحب وأن رصيده من القفشات لا ينتهي.
حين كنت صحافيا بجريدة «المنتخب» عاتبني اللوزاني بشدة عند مدخل ملعب محمد الخامس، وكان حينها يشرف على تدريب اتحاد طنجة، وجه لومه لي بمجرد ما صادفني في الممر المؤدي لمستودع الملابس، فقط لأن نقطة سقطت من حرف الزاي وتحول اسمه إلى «اللوراني» اتهمني بالتصرف في اسمه مع سبق الإصرار والترصد، حاولت عبثا أن أكشف له بأن النقط ليس من اختصاصي وأن خطأ مطبعيا غير معالم اسمه، لكن ظل مقتنعا بالمؤامرة.
أذكروا أمواتكم بالخير