
يونس جنوحي:
في الوقت الذي لا تُذكر سوس والجنوب الشرقي، إلا في أخبار الطرق المقطوعة وصور القرى التي تجرفها السيول، هناك جانب خفي لم يطله الغبار فحسب، بل تحولت رموزه القديمة إلى ما يشبه مقبرة كبيرة ومهجورة للذاكرة.
إذ إن تدمير موقع أثري في إقليم زاگورة، الله وحده يعلم الفترة الحقيقية التي تعود إليها النقوش على الصخور الموجودة به، كان ليُعتبر كارثة وطنية لو أن هناك ما يكفي من العقلاء للتأكد ألا يتكرر الحادث.
إذ إن الجرافات المعدة خصيصا لتجهيز المكان ليصير ضيعة فلاحية، لا تعرف قيمة النقوش الصخرية التي توجد في الموقع الذي يبعد بالضبط ستين كيلومترا عن مدينة زاگورة. وفي الوقت الذي كان مخططا أن يتحرك فيه بعض الباحثين من أبناء المنطقة لجعل وزارة الثقافة تضع يدها على المساحة التي يحتلها الموقع الأثري، كانت الجرافات أسرع إلى المكان، ووصلت قبل حتى أن يصل خبر وجود الموقع أصلا إلى الرباط. وهكذا تم تدمير الصخور أثناء عملية إعداد الأرض لزارعة البطيخ، بدل أن يقف فوقها الباحثون بأدواتهم الدقيقة لالتقاط صور للصخور ومحاولة تفكيك دلالات الرموز المنقوشة وتحديد الفترة التي تعود إليها.
بعيدا عن النقوش، هناك تاريخ كامل يعود إلى القرنين الأخيرين فقط، وطاله الإهمال وانقرض رغم أنه لا صلة له لا بضيعات البطيخ ولا البطاطس، بل كان قابعا في مكتبات المدارس العتيقة والمساجد. لكن بدل أن تُنقل محتويات تلك المكتبات، التي تعتبر تراثا وطنيا، إلى أماكن أكثر أمانا وتكون متاحة للعموم، بقيت تنتظر مصيرها إلى أن أتت عليها مياه الأمطار وتفرقت صفحاتها بين سماسرة بيع المخطوطات.
لكم، مثلا، أن تتصوروا أن الإرث العلمي لمنطقة سوس والجنوب الشرقي بلغ مداه عندما تأسست، قبل ستين سنة تقريبا، جمعية أطلق عليها أصحابها «جمعية علماء سوس»، وقد كانوا كذلك بالفعل. فقد كانوا سابقين زمانهم وحققوا مخطوطات وألفوا أخرى في مجالات العلوم، خصوصا الفلك والحساب، رغم أنهم كانوا يعيشون في قرى معزولة تماما، حتى الاستعمار تعب لكي يصل إليها.
وهؤلاء العلماء كانوا مؤثرين في حياة الوطنيين المغاربة الأوائل، لكنهم نُسوا، إلى درجة أنه لا يوجد اليوم أي عمل فكري يؤرخ لهم رغم أنهم لعبوا دورا كبيرا في ميلاد الحركة الوطنية ورموزها.
مضى ذلك الزمن الذي توارثت فيه عائلات مفاتيح مكتبات المنطقة، وأصبحت الأراضي التي جرت العادة أن تُخصص لأهل العلم، موضوع نزاعات بين الورثة لتحويلها إلى عقارات ومخازن لبيع الإسمنت، اللغة الجديدة التي فاق ضجيجها الأصوات الداعية إلى الاهتمام بالعلم.
صحيح أن تحويل مواقع أثرية مهجورة إلى متاحف ومعارض مفتوحة أمام الزوار، جعل عشرات الأماكن الرمزية تستعيد مكانتها الاعتبارية التي تستحقها. لكن أخبار تحويل معالم ثقافية وأثرية إلى ضيعات فلاحية تستدعي فعلا أن نتوقف قليلا، على الأقل لكي نرى ما إن كنا نسير إلى الأمام أم أننا نعود إلى الخلف.
في المغرب الشرقي، كما في سوس، وكما في الريف وفاس، كان هناك علماء مغاربة حملوا لواء العلم في المغرب الكبير وفضلوا الموت بين كُتبهم، كما لو أنهم كانوا يعلمون أن المستقبل سوف يحمل أخبارا غير سارة للمدارس العتيقة ومكتباتها، وأيضا للأماكن الأثرية. لكن أن تتحول إحداها إلى مزرعة للبطيخ.. فحتى ابن خلدون لم يتوقع كل هذه السوداوية في التعامل مع الموروث المشترك، المفترض أنه لا يُقدر بثمن.