وليد عثمان
لا شيء اسمه جريمة كاملة في أعراف المحققين وعشاق الألغاز، فهم مؤمنون بأن الجناة يقعون لا محالة في قبضة المحاسبة، مهما طال الزمن، لكن ما أكثر الجرائم التي تنتهي إلى لا شيء في عالمنا العربي، وتحديدا عواصم الأسى فيه، ومنها لبنان.
انفجار المرفأ الذي شهدته بيروت، قبل ثلاث سنوات، إحدى هذه الجرائم الكاملة، على الأقل حتى الآن، وقد تبقى لغزا يضاف إلى ما يحير، وهو كثير، في خريطة لبنان المُبتلى بنخبة لا تليق بقيمة وطنها، وبقية شعبه، نخبة تسيطر على مقاليد الأمور منذ عقود، عملها قائم على الفساد بكل تفرعاته على حساب اللبنانيين الذين وصلوا إلى حافة الجوع إذا لم نقل إلى قعره، هذا الفساد الذي بات ظاهرا في كل القطاعات ما زال مستشريا بكثرة، وهو الأساس في وصول لبنان إلى الهاوية سياسيا واقتصاديا وحتى على صعيد القضاء الذي نخرته السياسة.
وانفجار الرابع من غشت 2020 ليس الجريمة الأولى في تاريخ لبنان التي تكاد تحطم الأعراف، فكثيرا ما أفلت الجاني، وبقيت الضحية تطارد سراب محاسبته.
وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الجريمة تمثل النموذج الأكبر والأقرب للأذهان، لديمومة تعذيب الضحايا، وهم ليسوا فقط المائتي قتيل أو يزيد، ولا ما يقارب سبعة آلاف مصاب؛ بل معهم عائلاتهم وأصدقاؤهم ومحبوهم، وكل محبي لبنان الوطن المُصِر بأرضه وشعبه على تعليم كثيرين معاني الحياة، بينما يحترف ساسته، أو معظمهم، تجارة الموت.
لم تبدأ الجريمة ولم تنته عند الانفجار الذي هز كل شيء إلا ضمائر تجار الموت، فقبله مقدمات طويلة من الاستهتار المحترف، والإجرام المنظم، قادت إلى غرس الشحنة القاتلة في قلب لبنان وقلوب محبيه.
وبعد الانفجار، لم يعبأ أحد بقصص من ماتوا وتقطعوا إلى أشلاء متناثرة؛ بل تعرض الأحياء الباحثون عن حقوقهم لانفجارات أخرى أقل حجما، وضحيتها الأبرز هذه المرة العدالة التي دُفنت قبل قتلى المرفأ، أو هُربت إلى عاصمة ما.
من ينظر إلى أهالي الضحايا وهم يجوبون الشوارع والساحات حاملين صور أبنائهم وأحبائهم والدموع تنهمر على وجناتهم، لا بد له أن يقف برهة أمام هول المصاب، ويرفع الرايات معهم بعنوان واحد: أوقفوا القتلة والمجرمين بحق الأرواح البريئة الطاهرة، وبحق بيروت المدينة العريقة منذ القدم.
لم يكن متصورا أن يتحول مرفأ بيروت إلى جرح عميق في قلب لبنان، بعدما كان نقطة وصل بدول العالم، تتبادل معه مفردات الحضارة.
لضحايا الانفجار، من القتلى والمصابين، ومن يبحث عن حقوقهم حق في العدالة، لكن الوقائع تشي بأنها سراب آخر، وهذه كارثة لا تتعلق بالواقعة ذاتها، إنما بما يتكرر من جرائم في يوميات لبنان وتفاصيله الماسة بوجوده.
العدالة حق الضحايا وعائلاتهم، وهي كذلك حق للبنان كله، لعله ينجو يوما من الضلال والمضللين، ويظفر بذوي ضمائر لا تحتاج إلى انفجار كالذي عرفه المرفأ لتهتز وتصحو من سباتها العميق الذي طال كثيرا.