جريمة أن تكون معارضا سلميا
عدد جريدة «الأهرام» الصادر يوم 26 أبريل لم يشر إلى خبر المظاهرات الاحتجاجية الغاضبة التي خرجت في القاهرة وعدة مدن أخرى في اليوم السابق (25 أبريل) في الوقت ذاته حرصت الجريدة على إخبار قرائها بأن مظاهرات شبابية خرجت في العاصمة البرازيلية ساوباولو دعما لروسيف (الرئيسة)، وأحاطته علما بأن اتحاد الشغل طالب العمال بالنزول إلى الشوارع. كما أنها حرصت على ذكر السهرة اليسارية المزمع إقامتها بالإليزيه دفاعا عن ولاية هولاند (الرئيس الفرنسي). ولم يفتها أن تنشر خبرا آخر عن اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى. أما ما حدث في مصر فقد لخصته الجريدة العريقة في عبارات من قبيل أن المواطنين: عبروا عن فرحتهم الشديدة بالذكرى الغالية، معربين عن سعادتهم الغامرة بمشاركة قواتهم المسلحة الاحتفالات بهذه المناسبة، مقدمين الشكر والامتنان لرجالها البواسل الذين لا يدخرون جهدا في دعم جهود التنمية الشاملة وتخفيف العبء عن كاهل المواطنين، بالإضافة إلى مهامهم الرئيسية في حماية الأمن القومي والدفاع عن حدود الوطن وسلامته.
أما التظاهرات الاحتجاجية التي خرجت في 10 محافظات وظل صداها المدوي يتردد في الفضاء المصري طوال اليوم، فضلا عن أنها كانت محط أنظار عواصم العالم فقد كان نصيبها من تغطية الأهرام ثلاث كلمات فقط وردت في ثنايا جملة ذكرت أن جموع المواطنين قاموا بتنظيم احتفالات شعبية «رافضين دعوات الفوضى»! وكانت قد أوردت المعنى ذاته في عنوان كرر الكلمات الثلاث.
لم تنفرد الأهرام بهذا الموقف لأن الصحف القومية (!) تبنت نفس الموقف، وإن تم ذلك بدرجات متفاوتة. فعنوان الصفحة الأولى لجريدة «الأخبار» كان كالتالي: احتفالات صاخبة واحتجاجات خافتة. أما جريدة «الجمهورية» فقدت تحدث عنوانها الرئيسي عن أن «الشعب يهزم قوى الشر». أي أن الصحف «القومية» تراوحت في مواقفها بين التجاهل شبه التام والتهوين المضمر والتجريم. وجميعها ظلت في خندق الحكومة والأمن.
الصحف المستقلة عبر بعضها عما جرى بصورة مختلفة نسبيا لا يخلو بعضها من احترام للحقيقة وللقارئ، فعنوان جريدة «الشروق» كان كالتالي: الميادين للمؤيدين والأمن في انتظار المعارضين. أما «المصري اليوم» فقد عبرت عن نفس الموقف حين ذكرت في عنوان الصفحة الأولى أن: الشارع للمؤيدين والأمن للمتظاهرين. وتضمنت الجريدتان تغطية معقولة نسبيا للتظاهرات التي خرجت في المناسبة. ثمة صحف أخرى يفترض أنها مستقلة. إلا أنها «قومية» بامتياز ذلك أنها التزمت بالخط «القومي» وبعضها بالغ فيه وزايد عليه فجريدة «الوطن» كان عنوانها الرئيسي كالتالي «الشعب يحتفل والجيش يطارد الإرهاب». أما «اليوم السابع» فإنها ذهبت إلى أبعد وبدت أكثر التزاما بخطاب وزارة الداخلية حين ذكرت في عنوان الصفحة الأولى «الإخوان فشلت في التحريض»، ولا تسأل عن «البوابة» لأن التزام الجريدة لا يكتفي بتبني خطاب الداخلية فقط ولكنه موزع على جهات أخرى عديدة أترك لك تخمينها وإحصاءها.
بدرجة أو أخرى نستطيع أن نقول إن عناوين الصحف في تعاملها مع تظاهرات 25 أبريل عبرت عن الجزء الظاهر من الحياة السياسية في مصر، أما الشق الغاطس من الصورة فإنه يظل مجهولا وليس بمقدورنا أن نطالع معالمه. لأن صوت الضجيج الإعلامي في مصر أعلى بكثير من صوت الشارع في طول البلاد وعرضها. ولا تنس أن البرلمان الذي يفترض أنه معبر عن الشارع تمت هندسته بصورة محكمة جعلته معبرا عن السلطة وليس المجتمع. عندي عدة ملاحظات على المشهد أبدأها بالتذكير بأن الحدث الأبرز الذي شهدته مصر يوم 25 أبريل كان بمثابة التظاهرات السلمية التي خرجت بصورة متحضرة معبرة عن الاعتراض على ما تم بشأن الجزيرتين والغضب المتراكم الذي وجد في المناسبة فرصة للإشهار والتنفيس، إلا أنه كله قوبل بدرجات متفاوتة من القمع (300 اعتقلوا) التي عرضتها العديد من شاشات التليفزيون وتجاهلتها القنوات المصرية التي تنافست في التعبير عن «قوميتها».
أما ملاحظاتي فأوجزها في ما يلي:
إن ما جرى يعبر ليس فقط عن الضيق الشديد بالرأي الآخر ومصادرة حق الاختلاف والتظاهر السلمي، ولكنه أصبح يعتبر الاختلاف جريمة تستوجب العقاب وتسوغ استباحة كرامات الناس وتوجيه مختلف الاتهامات إليهم التي وصلت إلى حد تراوحت فيه بين الانتماء للإخوان وبين التشهير بالمتظاهرين واعتبارهم دعاة للفوضى وساعين لإسقاط الدولة.
إن الآلة الإعلامية كلها باتت موزعة بين الارتباط بالسلطة والارتباط بأجهزة الأمن، حتى المنابر التي تبنت مواقف اتسمت بالاحتشام فإنها ظلت تتحرك في حدود «الملعب» ولم تغادر مربعه.
إن الصحف «القومية» قدمت لنا نموذجا مغايرا في التعامل مع الأخبار. ذلك أننا نعرف في المهنة أن الخبر حق للقارئ وملك له، بخلاف الرأي الذي هو ملك لصاحبه. وفي المشهد الذي رأيناه (وفي حالات سابقة عديدة) أرست تلك الصحف مبدأ جديدا في المهنة اعتبر الخبر الداخلي صار ملكا للحكومة (وللأمن أحيانا) وليس للقارئ فيه نصيب.
إن مصطلح «أهل الشر» جرى التوسع في مضمونه بحيث أصبح وصمة تلاحق كل صاحب رأي مغاير، الأمر الذي يعيد إحياء مقولة نحن شعب وهم شعب غريب آخر ولا سبيل للقاء بينهما. وتلك لعمري أعلى مراتب شق الصف الوطني التي نسأل الله أن يجنبنا عواقبها.