شوف تشوف

الرأي

جراح الأوعية دبغي

بقلم: خالص جلبي

 

ميشيل إلياس دبغي من عائلة لبنانية مهاجرة إلى أمريكا، قفز إلى الصدارة في ممارسة جراحة الأوعية الدموية، كما فعل المصري مجدي يعقوب. وهكذا فلو بقيا كلاهما في الشرق المنكوب، لماتت المواهب. وهكذا تفعل البيئات المشجعة، وأنا شخصيا جربت حظي في التدرب بجامعة دمشق، في ما عرف بالدراسات العليا، فكانت في حقيقتها سفلى بامتياز. اسمه «دبغي» فهل كان جده يعمل في تجارة الجلود ودباغتها؟ هذا يحتاج إلى بحث تاريخي، وتتبع أصول العائلة في لبنان المنكوب بكل مرض. فمع عام 2021 أصبح لبنان بلدا فاشلا من حيث هربت عائلة دبغي، وأنا شخصيا تدربت في مشفى المقاصد ببيروت، فكانت لبنان ألماسة تلمع، وإن كانت ملاحظتي عليها روح مادية خطيرة، ولعلها كانت البؤرة التي انفجر منها الطاعون والحرب الأهلية والاقتتال المذهبي والانهيار الكامل، بل وانفجار قنبلة ذرية مصغرة في ميناء بيروت من نترات الأمونيوم، التي كان يستخدمها الحزب الطائفي هناك لقتل السوريين بالبراميل المتفجرة.

ومما روى لي زميلي الدكتور الأتاسي، الذي زار المركز الذي كان يقوده ميشيل دبغي، الذي توفي في 11 يوليوز 2008 م، بعد أن عاش 99 سنة، فقال: في أواخر التسعينات كنت أتردد على مشفى جامعة «بيلر Baylor » في مدينة هيوستن بولاية تكساس، حيث يعمل زوج أختي جراح الأوعية الدموية، وكنت أدخل معه إلى غرف العمليات للمشاهدة والتعلم.

كان هناك طبيب عجوز نحيل الجسم، جاوز التسعين من عمره، يرفض أن يعترف بأنه قد هرم، فيلبس قفازاته الجراحية التي صممت خصيصا على قالب يده، ويبدأ بانتزاع «اللويحة الوعائية atheroma» من مفترق الشريان السباتي، بعدما يكون الأطباء الأصغر سنا قد فتحوا رقبة المريض، وكشفوا الشريان السباتي.

لم يكن هذا الرجل إلا «مايكل دبغي»، الأمريكي الجنسية اللبناني الأصل، والذي بدأ حياته الطبية، عندما كان فليمنغ يكتشف البنسلين!

بحث دبغي عن خليفة له داخل أمريكا سنين طويلة، فلم يجد الشخص المناسب، وفي عام 1976 بينما كان يزور بغداد، تعرف على طبيب شاب يدعى «حازم صافي» لمس فيه النجابة؛ فدعاه إلى الولايات المتحدة لينخرط في مشفاه، وخلال سنوات أصبح صافي المسؤول عن الأطباء المتدربين في جراحة الأوعية الدموية، خلفا لدبغي. 

لم يكن صافي أقل قسوة من دبغي مع متدربيه – ومنهم زوج أختي-  تبدأ حياة المتدرب بمعسكر مغلق في المشفى لمدة شهرين، لا يخرج منه لأي سبب، ويسمح بالزيارات العائلية مرة في الأسبوع.

يبدأ العمل اليومي الخامسة صباحا، وكثيرا ما يستمر حتى الثانية عشرة ليلا!

وما زال الأمريكيون الشعب الأكثر عملا بعدد الساعات، إذ يتجاوز المعدل السنوي 1800 ساعة، متفوقين حتى على اليابانيين المشهورين بجديتهم وتحملهم لساعات العمل الطويلة.

عاش دبغي على هذا المنوال من العمل الشاق طوال حياته، مما يجعلني أشك في أن التعب والنصب وقلة النوم تنقص من العمر، وإلا لما عاش دبغي قرنا من الزمان. 

وفي عمر الخامسة والتسعين أصيب دبغي بـ«انفصال أبهري aortic dissection» واحتاج إلى تدخل جراحي لإنقاذه، والطريف أن دبغي كان رائد هذا النوع من العمليات، والتي كانت تسمى باسمه، والأطرف من ذلك أنه رفض التداخل الجراحي.

ولما ساءت حاله وفقد الوعي، قرر الفريق الجراحي في المشفى إجراء العملية، بعد أن استحصلوا على موافقة من اللجنة الأخلاقية للمشفى، وأدخل إلى غرفة العمليات، وكان أكبر مريض تجرى له هذه العملية، ونجحت العملية وعاش بعدها عدة سنوات.

ومن الطريف أيضا أنه أجرى لزوجته عملية، فماتت تحت مبضعه، ولم تنج المسكينة، مع أن العرف الطبي لا يشجع قط، أن يجري الجراح عملية لأحد أفراد عائلته، لتدخل العاطفة مع الموضوعية. 

ومن أصعب وأغرب العمليات التي كانت تجرى في هذا المشفى، عملية تدعى «القوس الأبهريaortic arch surgery»، وهي عملية ينقطع فيها الدم عن الدماغ، وتنخفض حرارة المريض إلى 18 درجة مئوية، مما دفع كثيرا من الأطباء إلى التفكر والإيمان بوجود الروح، التي لولاها لمات المريض! 

مع هذا يجب أن نعترف بأن الإبداع العلمي يحتاج إلى وسط، فلو بقي يعقوب في دلتا النيل، لما أخذ لقب ملك القلوب.

وكذلك حال المصري «أحمد زويل»، الذي نال جائزة نوبل لتفتيت الزمن إلى الفيمتو ثانية، فلو ولد زويل في صعيد مصر وبقي هناك لكان موظفا في البريد، أو خبير «جناين»، أو حمالا في سوق الخضر، أو في أحسن أحواله أستاذا في الجامعة، يتثاءب في المحاضرة هو وتلامذته من فرط النعاس. ومن رفع شأنه هو الوسط العلمي بأمريكا.

وهكذا فالعبقرية لها أرض، ومالك بن نبي يعتبر أن الحضارة ومعها العبقريات عندنا قد ودعت الأرض، منذ أيام ابن خلدون، فنحن حاليا لم ندخل مرحلة الدولة والعصر والإبداع، فهذه حقيقة موجعة يجب الإقرار بها، بعد نوم آبائنا الطويل وعلينا دفع فرق الدين الحضاري.

ومنها قصة اللبناني دبغي، فلم يكن ليصل إلى ما وصل إليه، لولا أنه ركب الجامبو الأمريكية.. يقظة للغافلين وآية للمتوسمين.

إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم.

 

نافذة:

عاش دبغي على هذا المنوال من العمل الشاق طوال حياته مما يجعلني أشك في أن التعب والنصب وقلة النوم تنقص من العمر

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى