رفيق خوري
حرب غزة ليست مختصر الصراع في الشرق الأوسط، ولا محوره، بمقدار ما هي معركة تتداخل فيها صراعات أكبر منها وأوسع من قضية فلسطين، والصراع على النفوذ والأدوار والأرض بالعالم العربي بين ثلاث قوى إقليمية، هي إيران وإسرائيل وتركيا ليس كل المشهد في المنطقة.
حتى معادلة الصراع والتنافس والتعاون بين أمريكا والصين وروسيا، فإنها تبقى في حاجة إلى أرقام صعبة في المنطقة تمثلها القوى القادرة على لعب أدوار إقليمية والقوى الطامحة إلى مثل هذه الأدوار.
كل هذه الصراعات لا تحجب مواجهات قديمة ومتجددة وجديدة بين ثلاثة مشاريع حول مستقبل الإقليم الشرق أوسطي، والذي صارت إيران تسميه «غرب آسيا» أو «مشروع «الولاية»، إضافة إلى مشروعي «الخلافة» و«الدولة الوطنية».
وليس أصعب من تحقيق «الولاية» سوى استعادة «الخلافة»، وهما معا نقيض «الدولة الوطنية» التي هي البديل الممكن والضروري والناجح من مسار الوحدة العربية، الذي اصطدمت شعاراته وأحزابه وتياراته وتجاربه بمصاعب ونواقص ومخاوف قادت إلى الفشل.
مشروع «الولاية» له منذ نجاح الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الخميني دولة تعمل من أجله ليل نهار وتمهد طريقه، هي الدولة التي يحكمها «الولي الفقيه» بالنيابة عن صاحب الزمان، وهي أسست مجموعة فصائل مسلحة في العراق وسوريا ولبنان، ودعمت الحوثيين في اليمن للعمل من أجل المشروع.
والذاكرة ما زالت طرية بالنسبة إلى ما قاله أبو مهدي المهندس، قبل اغتياله مع قائد فيلق القدس، الجنرال قاسم سليماني، بمسيرة أمريكية «إن الحشد الشعبي مشروع أمة، مشروع ولاية»، وها هو قائد فيلق القدس الحالي، الجنرال إسماعيل قاآني، يعلن أن «محور المقاومة بقيادة إيران سيستمر في العمل في لبنان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين، حتى ظهور الإمام الغائب وتشكيل حكومته».
لكن «الولاية» مشروع إيديولوجي ديني ومذهبي من دون تجربة عملية له في التاريخ، لا في الخلافة الراشدة، سيما في خلافة الإمام علي بن أبي طالب، ولا في أي وقت، والعمل له، إضافة إلى الفصائل المسلحة، يزدهر في الأزمات، ومن الصعب نجاح المشروع في البلدان متعددة الأديان والمذاهب، والأصعب هو فرضه بقوة الأقلية على الأكثرية، لكن العمل له مستمر وتأثيره كبير في المنطقة.
مشروع «الخلافة» ليس له بصورة واضحة دولة تعمل من أجله، بصرف النظر عن الحنين في الأوساط الشعبية إلى أيام الخلافة الراشدة والعهد الأموي وفرعه في الأندلس والعهد العباسي والممالك التي نشأت في ظله، والسلطنة العثمانية التي جرى اعتبارها استمرارا للخلافة وألغاها كمال أتاتورك.
وفي 1929 أسس الشيخ حسن البنا حركة «الإخوان المسلمين»، وكان في طليعة أهدافها استعادة «الخلافة» وإقامة «أستاذية للعالم»، ومن عباءة «الإخوان» خرجت جماعات مسلحة متشددة وحركات متعددة تدعو إلى الخلافة، قليلها بالوعظ وكثيرها بالعنف، وأبرزها «القاعدة» و«داعش» التنظيم الذي أقام بالفعل «دولة الخلافة» على نصف مساحة العراق وثلث مساحة سوريا، وأعلن «الرقة» عاصمة لها، قبل أن يسقطها في الجغرافيا تحالف قوى محلية ودولية.
وكما في الولاية كذلك في الخلافة، الحكم لرجال الدين تحت عنوان «الحاكمية لله»، والأزمات هي المناخ الملائم، والعنف هو الوسيلة المفضلة، لكن الواقع أن جمع العالم الإسلامي العربي وغير العربي الذي يضم أكثر من مليار ونصف مسلم في دولة واحدة ولو سميت دولة الخلافة هو مهمة مستحيلة، فضلا عن أن الدولة في الإسلام، حتى في المدينة المنورة أيام الخلافة الراشدة، كانت نوعا ما دولة مدنية يستلهم الحكم فيها القيم الدينية، لكن الحكم ليس في يد رجال الدين.
أما مشروع «الدولة الوطنية»، فإنه مشروع بناء المستقبل، في مواجهة مشاريع العودة إلى الماضي، عماده الحوكمة والعمل على التنمية وتحسين نوعية التعليم وتحقيق العدالة والمساواة في المجتمع من خلال دولة قوية وعادلة، حليفه بالطبع الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي.
هو عمليا مشروع العالم العربي في العصر الحديث، فالحاضر مفتوح له، والمستقبل أمامه، ولا يقلل من زخمه والحاجة إليه ما حدث أيام ما سمي «الربيع العربي» من انقضاض التيارات الراديكالية المتطرفة على دعوات الشباب إلى الخبز والكرامة والحرية في دول وطنية.
نافذة:
ليس أصعب من تحقيق «الولاية» سوى استعادة «الخلافة» وهما معا نقيض «الدولة الوطنية» التي هي البديل الممكن والضروري والناجح من مسار الوحدة العربية