ليس التنافس الفرنسي الإيطالي على تونس جديدا، ففي أواخر القرن التاسع عشر، عندما قررت الحكومات الأوروبية أن تستولي على معظم العالم الإسلامي لتبدأ مرحلة الاستعمار المباشر، تنافس البلدان من أجل الظفر بهذا البلد الذي يحتل موقعا استراتيجيا في قلب المتوسط.
تغيرت الأوضاع والقيادات اليوم، لكن النوايا والحسابات بقيت ثابتة. كانت فرنسا الشريك التجاري الأول لتونس مدة طويلة، واليوم قفزت إيطاليا لتحتل المكانة الفضلى.
ومن شأن هذا أن يثير قلق باريس التي تراقب كل الأطراف المهتمة بتونس، وتعمل على كسب ثقة من تعتبره قريبا منها أو يمكن استقطابه وتحويله إلى صفها. تفاعلت مع الطبقة السياسية والمالية من هذه الزاوية، منذ قيام الثورة.
ورغم التطمينات التي قدمتها حركة النهضة لباريس منذ صعودها إلى دفة الحكم، حتى ظنت أنها كسبت الحد الأدنى من ثقة أصحاب القرار هناك، اكتشفت، عندما تغيرت موازين القوى، أن الموقف الفرنسي من الإسلاميين بقي ثابتا في جوهره، رغم التحسن في الشكل والأسلوب.
لهذا وقف الرئيس الفرنسي، ماكرون، مع قيس سعيّد منذ اللحظة الأولى التي هيمن فيها الأخير على الحكم، وحرص على تنظيم القمة الفرنكوفونية في تونس، دعما منه للرئيس، وتأكيدا أن حاضر هذا البلد ومستقبله هو من «حق» فرنسا أولا.
وما تخشاه باريس اليوم أن تلتحق تونس بدول إفريقية عديدة تمردت على الهيمنة الفرنسية، وقررت التخلي عن أي ارتباط لغوي أو اقتصادي وعسكري يربطها بها. وما يعبر عنه أنصار الرئيس، خصوصا الذين يحتلون مواقع في المنابر الإعلامية، ليس سوى رسائل سياسية مباشرة إلى العاصمة الفرنسية، إلى درجة أن أحدهم ذكر أن السفير الفرنسي جزء من المؤامرة المزعومة، والمتهمة فيها شخصيات سياسية ومالية وإعلامية!
كانت إيطاليا تعمل بهدوء من أجل تثبيت أقدامها اقتصاديا في تونس. ومع صعود حكومة من أقصى اليمين ذات ميول فاشية حصل أمر لافت للنظر، وهو تقارب قوي بين نظام سعيّد وحكومة ميلوني، التي جعلت من ملف المهاجرين القادمين من جنوب الصحراء الإفريقية قضية استراتيجية. واستغلت تصريحات الرئيس التونسي عن هذه المسألة لتبث الخوف في مختلف حكومات الاتحاد الأوروبي، بأن هذا «الخطر الداهم» يعني الجميع، وليس إيطاليا وحدها.
وجد ماكرون في الموقف الإيطالي فرصة ليستمر في رهانه على استعادة ثقة الرئيس سعيّد، فنفخ في هذه القضية، وطالب بتجنب العمل على مزيد من إضعاف سعيّد ومعاقبته اقتصاديا وسياسيا. ودعا مع رئيسة الحكومة الإيطالية إلى حوار صريح مع الرئاسة التونسية.
لن تكون هذه المهمة سهلة، خصوصا بالنسبة إلى ماكرون. كلمة السر لهذه المهمة، هي إقناع الرئيس بضرورة الموافقة على الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. وهو يرفضه خوفا على شعبيته، نتيجة ما قد يترتب عن ذلك من تداعيات سلبية على التوازنات الاجتماعية، ومواجهة مباشرة مع الاتحاد العام للشغل.
من جهة أخرى، إلى أي مدى يقدر الرئيس الفرنسي على إقناع الرئيس سعيّد بالتراجع عن سياسته القمعية تجاه خصومه السياسيين، خصوصا أن الحملة بدل أن تتوقف تزداد اتساعا في صفوف الحقوقيين والنشطاء الديمقراطيين، الذين يحمل كثيرون منهم الجنسية الفرنسية أو يقيمون في باريس؟
هل يمكن أن يضحي ماكرون بالورقة الحقوقية، من أجل الذهاب مع أقصى اليمينين الإيطالي والفرنسي في معركة شيطنة المهاجرين، واعتبارهم بمثابة الكوليرا الزاحفة؟ خصوصا أنه في أضعف حالاته السياسية، بسبب مواجهته معظم فعاليات المجتمع الفرنسي المجند حاليا ضد قانون تعديل سن التقاعد.
يعتقد معظم الساسة أن كل شيء جائز إذا كانت مصلحتهم تقتضي ذلك. لهذا انتقل كثيرون منهم من النقيض إلى النقيض، ووجدوا المبررات الكافية لإضفاء الشرعية على أعمالهم من دون أن يشعروا بأي خجل. وما يحصل حاليا فصل جديد من لعبة إقليمية ستأخذ أشكالا متعددة كلما زاد الوضع سوءا في تونس، وأصبح البقاء في السلطة هدفا في ذاته.
صلاح الدين الجورشي