تونس بين سطح صاخب وباطن متفجر
صبحي حديدي
في وسع المرء، على سبيل الرياضة غير المنهجية مثلا، قراءة أوضاع تونس الإجمالية اليوم بمعزل عن النزاع الراهن بين الرئيس التونسي قيس سعيد ورئيس الوزراء هشام المشيشي؛ لأن حال الاستعصاء طرأت بعد التعديل الوزاري الذي أجراه المشيشي ورفض الرئيس قبوله. وفي وسع المرء، ضمن الرياضة ذاتها، رد النزاع الراهن إلى أصل سوريالي أو يكاد، هو إصرار الرئيس على تسمية رئيس الوزراء هذا تحديدا من دون التشاور مع الأحزاب والقوى؛ ثم خروج المشيشي عن إرادة سعيد، واختياره الاحتماء بـ«مظلة» حزبية قوامها «حركة النهضة» بصفة خاصة، ضمنت له حصول التعديل على ثقة البرلمان.
ذلك أن عزل حال الاستعصاء بين الرئاستين يتيح إمكانية عزل ظواهر أخرى تشوب البلد على مستوى الرئاسة الثالثة هذه المرة (الجهود المحمومة، للإطاحة برئيس البرلمان راشد الغنوشي)؛ أو الوقائع صغيرة الشأن من حيث المبدأ، ولكن تلك التي تحيل إلى استنتاجات بالغة الدلالة (حكاية إعلان الرئاسة التونسية عن محاولة تسميم الرئيس عن طريق مغلف بريدي بلا عنوان، وما أسفرت عنه من خلاصة أقرب إلى نكتة بائسة)؛ أو هبوط بعض نجوم الإعلام الخاص إلى حضيض شائن، سلوكي وأخلاقي (تسريبات أمثال سمير الوافي وعلاء الشابي)؛ وصولا إلى انحيازات سياسية غير مسبوقة بين هذه الرئاسة أو تلك، انزلق إليها الاتحاد العام التونسي للشغل، ذو السمعة النقابية والوطنية العالية.
ورغم أنها رياضة غير منهجية، إلا بمعنى تركيزها على عزل سلسلة عناصر بهدف تبين، أو حسن تبيان، الصورة الأشمل والأعلى مغزى؛ فإن المشهد التونسي المحتشد بالعناصر المتسارعة يسوغ الكثير من خيارات إغفال هذه أو تلك من الظواهر سالفة الذكر، لصالح أخرى لا تقبل العزل لأنها واجبة ودائمة الحضور، وصانعة لجوهر البنية وليس لبعض عناصرها فقط. أحوال تونس الاقتصادية والمعيشية هي من هذا النوع، بل لعلها تستحق أن تتصدر اللائحة، خاصة إذا نجح المرء في توسيع حدقة النظر، ورأى استقرار هذه الأحوال في الباطن الأعمق من احتجاجات الشارع الشعبي على صراع الرئاسات والقوى السياسية، وصولا بالطبع إلى فئات النخبة ومستوياتها كافة.
المصرف المركزي التونسي يقر، رسميا، بأن الأوضاع الاقتصادية الراهنة هي الأكثر تدهورا، والتراجع في الناتج المحلي الإجمالي هو الأدنى، منذ 58 سنة؛ وإذا كانت جائحة «كوفيد – 19» قد أصابت قطاع السياحة بأذى شديد، فإن مؤشرات الضرر تشمل أيضا تراجع الاستثمار بمعدل 13 في المائة، وانخفاض الادخار بنسبة 6 في المائة، وهبوط الاستثمار الدولي بنسبة 26.4 في المائة. معدل البطالة 16,5 في المائة، لكنه يرتفع إلى 50 في المائة في عدد من المناطق المهمشة، ويزيد عن 35 في المائة في أوساط الشباب؛ ومعدل التضخم على مستوى الأسعار 4,9 في المائة، ومثله معدل التضخم الغذائي؛ والعملة الوطنية فقدت 47 في المائة من قيمتها أمام الدولار. كل هذه مؤشرات اقتصادية – اجتماعية بالطبع، ولكن استعصاءات السياسة والأحزاب والنخب لن تكون سوى محض استطالة جانبية لتفاعلاتها الأعمق في قلب المجتمع على اختلاف طبقاته وفئاته.
هي، كذلك، مؤشرات محرضة على تفاقم العنف أو صانعة مباشرة لأنساقه، التي قد تخرج أولا من بوابة الاحتجاج الاجتماعي والفقر والبطالة والغلاء والفساد، لكنها سرعان ما تلتحم بالخارجين من بوابات السياسة والعقائد والتيارات الجهادية والسلفية. والدراسات المحايدة، وتلك التي تجريها مراكز أبحاث إفريقية تحديدا، لا تتورع عن الاستخلاص بأن شروط استيلاد العنف الراهنة ليست البتة بعيدة عن تلك التي فجرت انتفاضة 2011؛ مع فارق جوهري حاسم هو أن حرية التعبير باتت اليوم أوسع، ومثلها النشاط السياسي والعقائدي، ووتائر الحشد والتعبئة والتجنيد.
وللمرء ذاته أن يحدث، ولا حرج، حول سطح تونس الصاخب، مقابل باطنها المتفجر: حيث السوق الجهادية ضاربة الأطناب، واحتقانات التنابذ بين تيارات إسلامية وليبرالية وعلمانية وسلفية على أصعدة التربية، وإحباط شعبي من الساسة يجعل المنافسة محتدمة بين الغنوشي و… عبير موسي!