عبد الإله بلقزيز
خلال أجيال متعاقبة، عبر مئات السّنين، رُفِعَت متونُ أئمّةٍ ونصوصٌ إلى مرتبة النّصّ المقدّس مع أنّ كتّابَها من المفسِّرين والمحدّثين والفقهاء أشخاصٌ حملوا آراء أو أوّلوا نصّ القرآن الكريم، واختلفوا بينهم وتفرّقوا إلى فرقٍ، ولم يكن أحدٌ منهم يملك من السّلطان العلميّ إلاّ ما يعترف له به تابعوه ومقلّدوه، فيما كان رأيُه لا يعني غيرَ أتباعه ولا يجد خارج هؤلاء من يسلّم بحجّيّته فكيف يذهب إلى تقديسه.
صحيح أنّ أئمّةً في الفقه والتّفسير والحديث انعقدت لهم الإمامةُ في الرّأي، في أوساط التّلامذة والأتباع، لعلُوِّ مقامهم العلميّ في ميدانهم؛ فهُمْ من أسّسوا المقالات، وأرْسَوا قواعد العلم الدّينيّ فأصَّلوا وفرّعوا وبوَّبُوا، وأنشأوا جمهوراً من التّلامذة صار منهم مَن صار من أهل الرّأي والعلم، وبالتّالي، كانت ألمعيّتهم في ميادينهم العلميّة هي ما صنعت لهم تلك السّلطة الرّمزيّة الضّاربة في أتباعهم، وكوّنت لديهم تلك الهيبة والمهابة فيهم، بل تلك الهالة السّحريّة التي زاد بريقُها إشعاعاً كلّما تَقَدّم الزّمن.
لكنّ الاعتراف بتلك السّلطة العلميّة، من تلامذتهم ومريديهم، شيءٌ وتقديسُ أقوالهم وآرائهم والمنافحةُ عنها بالنَّفس والنّفيس والطَّعنُ على مَن خالفهم -وقـد يبلغ حدّ التّكفيـر- شيء آخر مختلف تماماً.
ليس أئمّة المذاهب في الإسلام سوى بشر أَدَّاهم اجتهادُهم في شؤون الدّين إلى بناء مقالاتٍ في الكلام والفقه، أو تأسيس طرائقَ في التّفسير وفي الحديث، هي-في النّهاية- آراء قد تصحّ وقد لا تصحّ؛ أو قد يصحّ بعضُها ولا يَصِحّ غيرُه. هي آراء وليست تعاليمَ وحْي، ويجوز لكلّ ذي عقلٍ ورأي أن يقول قوْلاً: اتّفاقاً أو اعتراضاً أو تحفُّظاً، مثلما يُبدي رأيَه في أفكار غيرهم من معاصريهم أو في أفكار غيره من معاصريه. هُمْ رجالٌ ونحن رجال، كما وصف أبو حنيفة النّعمان أقرانه من الأئمّة والعلماء من التّابعين، ومزيّتهم تَكْمَن في أنّهم كانوا الأَعْلَمَ في زمانهم، وأنّهم أسّسوا مدارس في الرّأي عاش عليها أتباعهم لأزمنةٍ متطاولة. وما دون ذلك ليس لهم من سلطانٍ علميّ سرمديّ على الأمّة في أزمانها المتعاقبة.
إنّ الذين حسبوا في الماضي، ويحسبون اليوم، آراء هؤلاء الأئمّة الحقَّ كلَّه رافعين إيّاها إلى مراتب التّقديس إنّما ينسُبون إليهم عصمةً لم ينسُبْها أحدٌ من هؤلاء الأئمّة إلى نفسه، ويرفعونهم إلى نصابٍ فوقِ- بشريّ، ويقْدحون في العقل الإنسانيّ ليفرضوا على النّاس أن يكونوا مقلِّدةً متلقّين يردّدون – تَردادَ الاجترار والاستظهار- أقاويل الأقدمين، معطِّلين في ذواتهم مَلَكَة التّعقُّل والتّفكُّر والتَّسْآل تعطيلاً كاملاً! هكذا تنتهي المعرفة عند هؤلاء المُبَجِّلة إلى مَحْضِ نقلٍ وسماع؛ فهي قيلت مرّةً واحدةً في التّاريخ، وما على طالبها إلاّ العودة إليها في المظانّ، أو من طريق مُرشِدَةٍ يتنزّلون في الأمّة بمنزلة القناديل تهديها إلى البُغْية في الظَّلْمَة الظّلماء. وأَعَزُّ ما يُطْلَب من المعرفة شرْحُ أقاويل الأئـمّة وتيسيرُ طرائقِ بلوغها الأفهام، وبعدها لا مَزيد لمستزيد.
أشياءٌ كثيرة هي تلك التي يذهل عنها المبجِّلون والمقدِّسون لآراء القدماء؛ يذهلون عن حقيقة أنّ هؤلاء، في المقام الأوّل، ثمرةُ عصْرهم وشرطهم التّاريخيّ الذي انتظمهم وفرض عليهم مشكلاتٍ بعينها جَبَهَتْهُم وجبهُوها، وقدّموا في شأنها أجوبةً؛ أكانت مشكلات في الدّين أو في الدّنيا، لا يُحْكَم عليها إلاّ في سياقها…
ويذهلون عن حقيقة أنّ ما أنتجوهُ من معارفَ وأفكار وآراء إنّما كان ضمن ما سمحتْ به المعارفُ المُتاحة في عصرهم، وأنّ أُفقَهُم الذّهنيّ كان محكوماً – بالـتّبِعة – بتلك المُتاحات المعرفيّة وأنظمتها الإيپيستيميّة الحاكمة، وبالتّالي، فإنّ مَأْتى نسبيّة أفكارهم تلك من نسبتها إلى زمنٍ معرفيّ بعينه، ونسبتها إلى منظومةٍ مرجعيّة ثقافيّة فكّروا من داخل معطياتها ونظامها المفهوميّ…
ويذهلون عن حقيقة أنّ ذلك التّقديس الذي يَمْحَضونها إيّاهُ موضعيٌّ ومحدود وليس شاملاً؛ إنّه فعْلٌ يأتيه أتباع الرّأي أو المذهب أو الإمام، حصراً، ولا يشاطرهم إيّاه آخرون ينصرفون إلى تقديس غيره. وهكذا يُفصَّل فعْلُ التّقديس على مقاس الفرق والمذاهب والمقالات فلا يُجْتَرح من هذه إجماعٌ على رأيٍ أو مقالة، والحال إنّ الحقَّ واحد لا بعدد مَن يدّعونه: وهُم كُثر يدحضُ بعضُهم بعضَا…
وأخيراً يذهلون عن حقيقة أنّ العقل الكَسُول، المستقيل، الطّفيليّ غيرَ المنتج وحدهُ يكُفُّ نفسه عن الفعل فيرتضي أن يصير العقلَ المنفعل؛ الذي تنطبع عليه وفيه فعاليّةُ عقلٍ أَنتجَ في ما مضى وانْحَدَّتْ صلاحيّةُ منتوجه بقوّة أحكام التّاريخ وسيولة المعارف. وبهذا المعنى، يَقْدَح المبجِّلةُ في أنفسهم، بل يقيمون من أنفسهم حجّةً على أنفسهم: بأنّ أئمّتهم أنتجوا ما أنتجوه فيما هم اكتفوا بأن كانـوا مُجْتَرَّةً وشُرَّاحاً؛ المتْنُ لأئمّتهم والتّحشيةُ لهم…
وبعد؛ ليستِ المشكلة في أرباب رأيٍ قدماء قُدِّسوا، وما قَـدَّسوا أنفسَهم، إنّما المشكلة في هذه الأرهاط من الكَتَبَة الذين تناسلت كتاباتُهم من بعضها نصّاً واحداً لا يقول سوى الشّيء عينه: لا تُبْنَى المعرفة ولا تُبْدِع العقول، وإنّما المعارف والحقائق جرت على ألسنة القدماء، وهي ممّا يُسْتَأتَى ويُسْتَقى من بطون كتبهم، وما من وظيفةٍ للأتباع سوى النّقل والشّرح والتّلخيص! بئس الوظيفة التي يَنتدبون لها النّفس.