تفاصيل تاريخية مثيرة تروى لأول مرة
أن تكون مؤرخا للمملكة المغربية يعني أن تفتح أمامك أبواب أرشيف من المراسلات الرسمية بين المغرب والدول الأوروبية الأخرى. من حظ أحد مؤرخي المملكة البارزين، والذي توفي أواسط الأربعينات، أنه جمع مخطوطات كثيرة وأعاد ربطها، ليكشف لنا قرونا من الأحداث الدبلوماسية، التي اعتبرت إلى وقت قريب من الأسرار.
المولى إسماعيل كان ينوي الزواج من ابنة ملك فرنسا!
قبل أربع سنوات، صدرت دراسة غربية لأحد الباحثين في تاريخ شمال إفريقيا، يقول فيها إن الدبلوماسيين المغاربة كانوا يعانون من مشاكل حقيقية في التواصل مع نظرائهم الغربيين. بل زاد أن أغلبهم تحولوا إلى مواضيع للتنكيت والتندر بعد انقضاء مهامهم الدبلوماسية لدى الدول الغربية.
هذه الدراسة، كما يقول صاحبها، تبحث في سفارات القرن 16 و17. ويقلل في بعض ما ورد من فقراتها من شأن المترجمين والكتاب والسفراء المغاربة، ومدى إدراكهم للغات الأجنبية، إلى درجة أنه كذب أن يكونوا قد زاروا أوروبا فعلا!
لكن ما بين أيدينا، في أرشيف المكتبات المغربية المتخصصة، من كتابات مغربية، تعود إلى نفس الفترة التي تتحدث عنها هذه الدراسة، تقول عكس ما حاولت الدراسة أن تروج له.
بفضل الدبلوماسية المغربية وأرشيفها، نتمكن اليوم من معرفة أن المولى إسماعيل كان ينوي الزواج بابنة لويس الرابع عشر. أمر يبدو مستبعدا، لكنه حقيقي، وتوجد أدلة دامغة، تاريخية تدل على صحته. سبب ذكر هذه الواقعة التي غابت عن تفاصيل حياة المولى إسماعيل، رغم أن الكثيرين كتبوا عنه، يعود إلى أن السبب وراء قصة الزواج هذه، ليس إلا سفيرا مغربيا، مثل المغرب لدى فرنسا أيام لويس الرابع عشر، وعاد ليخبر المولى إسماعيل بأمر ابنة لويس الرابع عشر، وعاد ليخطبها له، في إطار عمل دبلوماسي كان يهدف إلى اتفاقيات، عرج بعدها إلى الإفصاح عن رغبة المولى إسماعيل، والتي لم تكن رسمية، في خطبة ابنة ملك فرنسا لنفسه. اعتذار لويس الرابع عشر كان متوقعا، واعتذر لكون عادات المولى إسماعيل تختلف تماما عن عادات دولته، لكنه لم يكن يملك الجرأة ليخبر المولى إسماعيل بأن السبب وراء الرفض يعود إلى تعدد زوجات سلطان المغرب.
هل كان لويس الرابع عشر ليوافق لو أن المولى إسماعيل لم يكن متزوجا من نساء كثيرات ولديه جواري أكثر؟
سؤال يستحق فعلا أن نقف عنده، لأن مؤرخا كبيرا، هو عبد الرحمن بن زيدان، استطاع الوصول إلى كتابات مؤرخين فرنسيين كانوا مقربين من لويس الرابع عشر، وكتبوا أن الملك لم يكن أمامه إلا أن يعتذر بذريعة الاختلاف الثقافي، فيما أسر لأصدقائه أنه يتخوف من كثرة زوجات المولى إسماعيل والقصص التي كانت تروج عن صرامته وشخصيته القوية.
الدبلوماسية لعبت دورا كبيرا في قصة هذا الزواج الذي لم يتم. فهل يعقل أن تكون ضعيفة وأن يكون مستوى الدبلوماسيين المغاربة دون المستوى الذي تريده أوروبا؟
يبدو غريبا أن يغيب تاريخ طويل عريض من الكتابات الدبلوماسية والمراسلات بين المغرب وفرنسا وإنجلترا أيضا، والحال أن المكتبات الرسمية ومعها الأرشيف الرسمي في القصور، يعج بمراسلات كتبها مغاربة وأوروبيون، تخفي من الأسرار، ما تختلط فيه السياسة بالمهام الجانبية، وحتى اتفاقيات السلاح وطلبات المعونة.. ما كان المغرب ليصل إليها لولا تاريخ سفرائه وكتّابهم والعاملين في دواوينهم، وهؤلاء كلهم شكلوا نخبة الدبلوماسية المغربية، في وقت كانت فيه الدولة المغربية مهابة الجانب لما تمثله من ثقل اقتصادي في مواجهة أوروبا، قبل أن تنقلب الأمور، ويتحول المغرب إلى مجرد جزء من كعكة كبيرة، اقتسمتها فرنسا وبريطانيا وحتى إسبانيا، بالتراضي.
عندما يسجن الدبلوماسيون
تعرض عبد الله بن عائشة للاعتقال على يد قائد مركب إنجليزي، لمدة ثلاث سنوات، إلى أن أطلق سراحه مجانا، بتدخل من الملك البريطاني الذي لم يكن يعلم أي شيء عن موضوع الاعتقال. لكن السفير وترجمانه، لما كانا في طريق العودة بحرا، تعرضا لاعتداء، على يد الفرنسيين هذه المرة، كان هذا سنة 1698. لكن الدبلوماسية الفرنسية تحفظ لعبد الله بن عائشة سيرة حسنة، والدليل يوجد في كتابات مؤرخين فرنسيين، هما HARDI وARIS، حيث قالا في كتابات لهما تعود طبعتها إلى سنة 1921، إن بعض الرؤساء والدبلوماسيين سألوا عبد الله بن عائشة عن سر تعدد الزوجات عند المسلمين، بهدف إحراجه، لكنهم أعجبوا بالجواب الذي قدمه لهم، والمتلخص في أن ما يجده الرجل الغربي من متعة في امرأة واحدة، لا يجده المسلم إلا في التعدد. وهو الجواب الذي كتبت عنه صحف فرنسية، خلال الأيام التي تزامنت مع زيارة عبد الله بن عائشة إلى فرنسا في 24 ماي سنة 1699.
قصة السفير المغربي الذي خلق أزمة عائلية لملك فرنسا
ربما لا أحد اهتم لما أورده أحد أبرز الباحثين المغاربة في تاريخ الدبلوماسية المغربية، بحكم المناصب التي شغلها أولا، ثم بحكم علاقاته الواسعة مع أغلب المغاربة الذين عملوا مترجمين وكتابا، وتم تكليفهم بالمهام الدبلوماسية خارج المغرب. عبد الرحمن بن زيدان، الذي اشتغل مؤرخا للمملكة المغربية، وساعده منصبه على الاطلاع على وثائق نادرة من تاريخ المغرب، خصوصا منها تلك التي تعود إلى فترة حكم المولى إسماعيل.
هذا المؤرخ، الذي شغل منصب المؤرخ الأول في وقت مبكر خلال القرن الماضي، حيث توفي سنة 1946 بعد عمر طويل من التأليف وإعادة الحياة إلى أرشيف من التاريخ الرسمي للقصر الملكي.
أيام اشتغاله مؤرخا للمملكة، عثر على وثيقة من أرشيف الدبلوماسية المغربية تؤرخ لفترة المولى إسماعيل، وتعود إلى رحلة قادها السفير عبد الله بن عائشة.
المعلومات المتوفرة عن هذا السفير، تقول إنه ينتمي إلى عائلة عريقة أندلسية. لكنه، أي عبد الله بن عائشة، كان أيام المولى إسماعيل يعد واحدا من أبرز الأسماء التي نشأت وترعرعت في الرباط.
حسب عبد الرحمن بن زيدان، فإن عبد الله بن عائشة، كان يبعث في مهام إلى أوروبا، ويلتقي بأكبر الرؤساء، وذكر أيضا أنه كان يلتقي القبطان العام وحارس البحرية، والأهم أن مصادر أوروبية، يقول عبد الرحمن بن زيدان، قد أشارت إليه وأشادت بالأدوار الدبلوماسية التي لعبها بين المغرب وتلك الدول الأوروبية.
لا يتوسع عبد الرحمن بن زيدان، في تفاصيل عن التكوين العلمي والمعرفي للسفير عبد الله بن عائشة، ولا المسار الذي قطعه في تعلم اللغات الأجنبية، أو أبجديات العمل الدبلوماسي، لكنه يقول إن الأخير كان موضوعا للمديح والثناء وتوصل برسائل من دبلوماسيين أجانب يثنون على لقائه بهم في مهام دبلوماسية اضطلع بها خارج المغرب، في عهد المولى إسماعيل دائما.
قصة مثيرة لخطبة المولى إسماعيل لابنة لويس 14
عندما عاد عبد الله بن عائشة إلى المغرب، تحدث مع المولى إسماعيل عن المهمة التي كان فيها، كما يقول بن زيدان مؤرخ المملكة، وتحدث له عن جمال فتاة اسمها «دوكانتي»، وكان يقصد بها الأميرة الفرنسية ماري آن دوكانتي. المولى إسماعيل خطبها لنفسه، لكن والدها «عظيم فرنسا»، أي لويس الرابع عشر، رد معترضا على أمر الخطبة، واعتذر للسفير، بحجة أن الطبع العربي للمولى إسماعيل لن يناسب الطباع الأوروبية لابنته.
يقول عبد الرحمن بن زيدان، إن لويس الرابع عشر كان معترضا على الخطبة منذ البداية، ورغم العذر «المهذب» الذي قدمه لسفير المولى إسماعيل، فإن كتابات المؤرخين الفرنسيين الذين كانوا قريبين منه، تقول إنه تخوف مما كان يحكى عن المولى إسماعيل، من أنه كان متزوجا من نساء كثيرات وأن أبناءه يعدون بالمئات، وأخبر حاشيته بقصة مما كان يروج عن المولى إسماعيل. تقول القصة إنه كان صارما مع نسائه إلى درجة أن واحدة منهن عوقبت بالموت لأنها قطفت ثمارا من أحد البساتين دون إذنه.
يقول عبد الرحمن بن زيدان، إن تلك الروايات تخلو من الصحة، لأنها كانت مجرد أقاويل تروج عن صرامة المولى إسماعيل وحرصه على تأديب المحيطين به، وأن لويس الرابع عشر، تمسك بما كان يروى كحجة للاعتراض على تزويج ابنته من الملك المغربي. لكن العذر الرسمي الذي قدمه، يعكس مدى مكانة المولى إسماعيل لدى الملك الفرنسي، حيث تعلل بالاختلاف الثقافي، وشكر المولى إسماعيل على اختيار ابنته لتكون زوجة له. يضيف عبد الرحمن بن زيدان، أن مؤرخين فرنسيين مثل «سان أولون» و«بيدجات ماكان»، تطرقوا لهذه الواقعة ونقلوا موقف لويس الرابع عشر، واستبعدوا، أن يكون المولى إسماعيل قد غضب للرفض الذي قوبل به من طرف لويس الرابع عشر. هؤلاء يتفقون مع الطرح الذي يقدمه عبد الرحمن بن زيدان بوصفه مؤرخا رسميا للمملكة، إذ أجمع الثلاثة على أن المولى إسماعيل لم يكن ليولع بسيدة لم يرها قط، وإنما سمع عنها وعن جمالها من سفيره عبد الله بن عائشة. هؤلاء المؤرخون قالوا إن المولى إسماعيل كان يتوفر في قصره على أجمل الجواري، من أعراق وأصول مختلفة، واستبعدوا أن تكون هناك أي أزمة بينه وبين فرنسا على خلفية اعتذار لويس الرابع عشر عن التحاق ابنته بحريم المولى إسماعيل.
المثير في قضية الخطبة، أن لويس الرابع عشر كان مهاب الجانب، ولا بد أنه أحس بإهانة من المولى إسماعيل، لأن الخطبة لم تكن بواسطة رسالة رسمية من القصر، وإنما اكتفى بإرسال سفيره عبد الله بن عائشة، ليخطبها له شفهيا، وهو ما فهمه المحيطون بلويس الرابع عشر، على أنه تقليل من شأن العرش الفرنسي، خصوصا وأنهم كانوا يعلمون أن المولى إسماعيل كان يحرص في رسائله، على زخرفتها بالذهب، والاعتماد في كتابتها على خيرة سفرائه ومترجميه، وهو ما لم يحصل في واقعة خطبته لابنة لويس الرابع عشر.
لحسن الحظ، يورد عبد الرحمن بن زيدان نصا للرسالة التي تقدم بها السفير عبد الله بن عائشة. تقول الرسالة: «وبعد.. أمرني مولانا السلطان على أنه إن كان جواب ملك فرنسا موافقا لما تضمنه كتابنا هذا فأتجه للسفر على أي مركب من المراكب البحرية الفرنسية، ترد على مرسى سلا، أو غيره، لأتوجه إلى حضرة سمو ذلك الملك الفحيم، وأعرض على جنابه العالي المعاهدة التي يرغب سيدنا عقدها معه بمزيد من الاشتياق والفرح وأن أحقق لديه بكل التأكيد بأنه يفتخر سيدنا بمصاهرة أعز الملوك وأجلهم، وأن يبيح له الدخول في جميع مراسي الإيالة الشريفة وسائر مدنها وأقطارها وكذلك لكافة رعيته. وعليه أشهد أن القبطان عبد الله بن عائشة هو الذي أملى علي هذا الكتاب باللغة الإسبانية، ثم ألزمني بترجمتها إلى اللغة الفرنسية، ولأجله وضع فيه خاتمه. والسلام.
دجون ماني دو لاكلوزي، النازل بمدينة سلا، في مقابلة تجارة السيد جوردان. وكتبه في 14 نونبر سنة 1699، الموافق لجمادى 1 عام 1111 هجرية. هذه ترجمة رئيسها حينه بالرباط الشيخ إسماعيل حامدي».
لنعد الآن إلى ما بدأنا به هذا الملف. الدراسة التي تقول إن سفراء المغرب لم يكونوا على دراية بأبجديات الدبلوماسية الأوروبية، تبدو واهنة أمام هذه الواقعة التاريخية التي أوردها عبد الرحمن بن زيدان، بعد وصوله إلى أرشيف يعود إلى أزيد من 400 سنة، واستدلاله بنسخ من مراسلات أوروبية تعود إلى نفس الفترة.
جعل السفراء أو الدبلوماسيين المغاربة مادة للتنكيت، يبدو سخيفا أمام ورود أدلة تاريخية يوجد نظيرها لدى الطرف الآخر من المعادلة، باعتراف مؤرخين اشتغلوا كتابا لدى المملكة الفرنسية، والبريطانية أيضا. سيرة عبد الله بن عائشة مثلا، وحدها تضم وقائع تعكس مدى تأثير الدبلوماسية المغربية في عهد المولى إسماعيل. يكفي الرجوع إلى تاريخ لويس الرابع عشر، لإدراك الثقل السياسي الذي كان يمثله، كرمز لواحدة من أقوى المملكات في العالم، ثم الطريقة التي راسله بها المولى إسماعيل في موضوع بالغ الحساسية، مستعملا سفيره. هذا الأخير كما تدل الرسالة، استعمل نسخة مترجمة من الإسبانية إلى الفرنسية، ولم تكن تحمل توقيع المولى إسماعيل، وهو ما اعتبرته حاشية لويس الرابع عشر، تقليلا من الاحترام لملك فرنسا، واستعلاء من المولى إسماعيل، الذي كانت تروج عنه قصص كثيرة في الأوساط الأوروبية.
هذه الرسالة وحدها، تثبت أن الدبلوماسيين المغاربة، خلال القرن 17، كانوا يتقنون اللغات الأجنبية. فعبد الله بن عائشة، يقول إنه أملى الرسالة بالإسبانية، وتمت ترجمتها إلى الفرنسية، واطلع عليها في الأخير شيخ مغربي، قبل أن يحملها إلى لويس الرابع عشر.
يقول عبد الرحمن بن زيدان، إن تاريخ المغرب في ذلك الوقت كان حافلا بنماذج مشابهة لعبد الله بن عائشة، والذي اضطلع بمهمة فيها قليل من الدبلوماسية، عندما تحدث مع لويس الرابع عشر عن الاتفاقيات بين المغرب وفرنسا بأمر من المولى إسماعيل، وكثير من الخصوصية عندما تقدم للملك الفرنسي معلنا رغبة المولى إسماعيل في الاقتران بابنته الأميرة
ماري آن.
عندما خصصت الملكة فيكتوريا استقبالا كبيرا لسفير مغربي لم يعر الدبلوماسية أي اهتمام!
من بين الأمور التي تدل على أن الدبلوماسية المغربية كانت متقدمة، ليس فقط خلال القرن 17 وإنما في القرن 18 أيضا، وصولا إلى القرن العشرين، حيث سيتراجع دور الدبلوماسية المغربية في أوروبا، ويتحول المغرب إلى موضوع صراع وسباق بين الدول الكبرى، أيها سيستعمره أولا.
لعل أكثر السفريات شهرة، هي تلك التي مثلها سفير مغربي، مرفوقا بمحمد الفاسي، والذي كان كاتبا مرافقا للسفير. هناك، يقول المكلف بكتابة تقارير السفارة، وجد السفير مساعدين للملكة فيكتوريا يتحدثون العربية، وأكد أن التواصل لم يكن يشكل أبدا مشكلة أمام إنجاز المهمة الدبلوماسية التي أوكلت لهذا السفير.
أرسلت الملكة ثلاث عربات لكي تقل الوفد المغربي من الفندق إلى حيث تقيم، وأخبرهم الرجل الذي كان يتحدث العربية أن الملكة أرسلت تلك العربات لكي توفر تنقلهم من الفندق إلى قصرها.
في الطريق قدم الفاسي وصفا طريفا لتشابه البيوت ونظام الأرقام، حيث قال: «والديار بهذه المدينة كلها متشابهة إلا ما قل، وتتميز بأعداد على أبوابها، ووسط هذه المدينة كله بساتين وحدائق وغير ذلك، وفي وسط هذه البساتين من أنواع النوار ما لا يوصف، وفي وسطها كراس عديدة معدة للجلوس عليها بقصد النزهة والفرجة وعاداتهم أنهم لا يحمون الحدائق بالحيطان، وإنما يحدقونها بقصب من حديد واقف، وبرأسه شيء شبيه بالحربة. ولأهل هذا البلد خيول عجيبة مؤدبة من أدبها ألا تصهل عند الاجتماع ولا تمهمه، مع أنها فارهة، وعلى الركض شارهة، فسبحان من سخر لهم هذه الأشياء مع اتباعهم الأهواء ليظهر صنع الله في الطرد والعكس وليعلم العاقل أنه لا غرض له في البعد والقرب».
أمضى الوفد ليلتين في ضيافة الملكة فيكتوريا، قبل أن يعطى لهم موعد للدخول عندها والجلوس معها. «بتنا ليلتنا، وفي غد الخميس بقصد الاستراحة، وفي اليوم الثالث، أي الجمعة، جاء الوزير في الساعة الواحدة، فسلم علينا ورحب، وسألنا عن أحوالنا وعن كيفية ركوبنا البحر فأجبناه بما يناسب، وطلب منا كتاب سيدنا أيده الله وقال إن الملكة أمرته بالإتيان به، فقلنا له: عادتنا أن ندفع كتاب سيدنا أيده الله بأيدينا عند الملاقاة، فضحك وأجاب بالقبول وقال: غدا في الساعة الثانية نرجع عندكم فوعدناه وذهب».
يقول محمد الطاهر الفاسي إن الإنجليز كانوا دقيقين في الوقت، وعاد المرسول في نفس الموعد تحديدا. يقول: «فذهبنا لملاقاتها في هذا اليوم.. فتلقتنا بدارها بعد أن مررنا بمشاوات، أي ممرات، على أشكال وقباب عديدة وبهن قوائم تعجبت من صفائهن وحسنهن، وجلهن من المرمر..».
انبهار الوفد بالأثاث، لم ينسهم ملاقاة الملكة وحضرتها: «فلما دخلنا لحضرة الملكة كانت جالسة على كرسي، وحين رأتنا قامت للقائنا بعد أن نزلت من كرسيها وسلمنا عليها وسلمت علينا ضاحكة وكل ذلك إيماء بحضرة قائد المشور ووزرائها وزوجها وكبير العسكر وبنتيها.. وأظهرت لنا المحبة والسرور، وجعلت تسائلنا عن أحوال سيدنا حفظه الله تعالى ثم سألتنا عن أحوالنا وهل حصل لنا ميد، أي رهاب أو دوخة، وهكذا ثم قالت: إني فرحت بقدومكم وعلمت محبة سلطانكم حين وجهكم إلينا. ونحن نجيبها بما يناسب فمكناها من كتاب مولانا أمير المؤمنين فقبضته بملاطفة وأدب وجعلته بين يديها تعظيما له وإجلالا لجنابه».
بعد اللقاء انصرف الوفد المغربي للاستراحة، على أن يعود تلبية لدعوة الملكة للعشاء.
عندما نذكر هنا هذا المقطع من المهمة الدبلوماسية التي أنيطت باسمين دبلوماسيين سيكونان في ما بعد من أبرز الوجوه التي عهد إليها القصر بمهام توقف عليها مستقبل علاقات المغرب بأوروبا ذلك الوقت، فإن الأمر يتعلق أساسا بعكس مدى تأثير الدبلوماسية المغربية في الخارج.
موضوع الدراسة المقتضبة التي حكمت على الدبلوماسية المغربية بالقصور، تبدو واهنة أمام كل المعطيات التاريخية التي يوفرها الأرشيف المغربي.
كان بن زيدان محظوظا، لأنه رجل تاريخ أولا، وفتح أمامه منصب مؤرخ المملكة، بابا واسعا للاطلاع على أرشيف المراسلات الدبلوماسية التي تبادلها المغرب مع أوروبا لمئات السنين.. أي فترات حكم مختلفة تنحصر في حكم العلويين وحدهم.
هذه السفارة الموجهة إلى الملكة فيكتوريا، أعطت البريطانيين فرصة للحكم على المستوى الدبلوماسي للمغرب. لم يكن الأمر بالحكم الذي يعطي حكما على سفير مغربي بأنه عاجز تماما عن القيام بدوره الدبلوماسي، بل تمضي بعض الكتابات البريطانية الرسمية في الاهتمام بتفاصيل عن شخصيته ولباسه وحتى طريقة مشيه أثناء حفل الاستقبال الرسمي الذي خصص له. وما أثار دهشة الدبلوماسيين الإنجليز، أن السفير أحضر معه كاتبا لإعداد التقارير وتسليم الرسالة الملكية التي تعتبر بمثابة اعتماد ملكي، وتأسيسا للعلاقات السياسية المغربية مع بريطانيا في عهد الملكة الجديدة.
«الثقل الدبلوماسي» يبقى هو الزاوية الوحيدة التي كانت تقيم بها الدول الأوروبية أداء الدبلوماسيين المغاربة. الأمر يبدو واضحا من خلال كتابات بن زيدان، خصوصا وأنه يقرنها، في ذلك الوقت، بما اطلع عليه من أرشيف المراسلات الدبلوماسية من الجانب الأوروبي أيضا.
تقزيم مكانة الدبلوماسيين المغاربة والسفراء القدامى، يبدو غير منطقي أمام الكثير من المعطيات التاريخية المتوفرة في هذا الباب. يبدو أمر السخرية التي تعرض لها الدبلوماسيون المغاربة، واهنا أمام واقع يلخص كل شيء: السفراء المغاربة سخروا من أنفسهم، قبل أن يفكر أحد في السخرية منهم. أو هذا ما يمكن استخلاصه من مطالعة مذكرات بعضهم، عندما أقروا بشجاعة أنهم انبهروا بمظاهر الحياة في أوروبا، ولم يهضموا بسرعة التقدم العلمي الذي كانت تنعم به القارة الأوروبية مقابل التخلف العربي عموما. لكن هؤلاء، كانت تشفع لهم مكانتهم الدبلوماسية، خصوصا وأن المهام التي اضطلعوا بها كانت سيادية بالأساس، وهو ما جعلهم محط تقدير كبير من طرف الملوك وحاشيتهم، وهو ما يفسر سر الكتابات الإيجابية التي سجلت عن حضورهم على يد مؤرخين عاشوا تلك الفترة.
بالعودة إلى المهمة الدبلوماسية التي أعلنت بدء العلاقات المغربية مع بريطانيا على عهد فيكتوريا، فإن السفير المغربي وقتها، بالرغم من التقدم العلمي والفارق الكبير الذي يفصل المغرب عن دولة مثل بريطانيا، إلا أنه تعامل مع الوضع بكثير من التحفظ، ولم يعر الدبلوماسية أي اهتمام، كما تقول ذلك مذكرات مرافقه وكاتب الرحلة الفاسي. وهو ما جعل هالة الاحترام تزداد، خصوصا وأن الملكة نفسها حرصت على تحية الوفد المغربي.
جاء في تلك المذكرات التي تعود إلى سنة 1860: «أخبرنا المبعوث الرسمي أن هذه الليلة تحتفل بها الملكة من السنة إلى السنة، وقد وافق مجيئكم هذه الليلة فلا بد من الذهاب إليها فأجبناه في ذلك وفي الساعة العاشرة من الليل، ذهبنا لدارها، فوجدنا عظماء الدولة هناك مع نسائهم ووجدنا هناك من الحراس والحجاب للخدمة ما لم نجده وقت الملاقاة، ووجدنا أيضا من الأواني الرفيعة وثريات الذهب والفضة والكراسي المفروشة بالحرير والمرصعة بالذهب ما لا يحصى ولا يحد ولا يستقصى، وذلك كله مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. ولما طال جلوسنا وأردنا الخروج من محلها، فاستأذناها فطلبتنا للدخول إلى محل الأكل، فدخلننا ووجدنا فيه من الأواني وغير ذلك أكثر مما تقدم، وذهبت معنا إليه ومعها جميع عظماء الدولة».
هنا يبدو أن الأمر على ما فيه من طرافة، يعكس، جهل السفير المغربي بعادات بريطانيا، لكنه لم يغيب الجانب الدبلوماسي، وأجاب الدعوة، وبدا واضحا أن الاهتمام مصدره الثقل الدبلوماسي للمغرب.
هذه أمور تدعو إلى التساؤل عن مضمون الدراسة التي قالت إن الدبلوماسية المغربية لم تكن لتواكب نظيرتها لدى الأوروبيين.
مغاربة ألّفوا كتبا عن التاريخ القديم لمجازر وفظائع سجون فرنسا!
بين الأدلة الأخرى على اطلاع كبار الكتاب المغاربة، أو قدماء المثقفين إن صح التعبير، سيرة عبد الله فريد الوجدي. هذا الكاتب، الذي ألف موسوعة حقيقية تجمع وقائع تاريخية كثيرة تعود إلى القرن 17 وما بعده، في عدة مجلدات. يورد في الجزء السابع منها وقائع تؤرخ لها فرنسا منذ القرن 16. حيث كتب عن الأزمة الداخلية التي عاشتها فرنسا، والممارسات التي أقدم عليها الملك الفرنسي لإسكات غضب الشارع والحرب الأهلية التي اشتعلت في فرنسا بسبب الخلاف بين الكاثوليك والبروتيستان. يقول في مؤلفه إن من نتائج هذه المذبحة أن فقدت فرنسا خيرة رجالها وعلمائها.
المثير أن هذا الرجل، أفرد في أحد أجزاء كتابه الموسوعة، فصلا لتاريخ السجون في فرنسا، وتحدث مبكرا عن وقائع كانت من المحرمات التي يتحاشى وقتها الفرنسيون ذكرها أو الكتابة عنها. وذكر أن زعماء فرنسيين يحترمهم التاريخ الفرنسي في ذلك الوقت كانوا وراء مجازر حقيقية، سقط خلالها الآلاف من المواطنين رميا بالرصاص.
كتابات كهذه لم تكن لتروق للفرنسيين، خصوصا وأن الدبلوماسية المغربية كانت وقتها في أوج اتصالها مع حكام فرنسا، حتى بعد رحيل عبد الله بن عائشة، والذي كان يعتبر أشهر سفير مغربي. هذه الشهرة، ليس مردها إلى قدم الفترة التي اشتغل فيها سفيرا للمغرب أيام المولى إسماعيل ولويس الرابع عشر، لكنها تعود بالأساس إلى البعثات الدبلوماسية التي مثل فيها المغرب.
هذا النموذج الذي نفرده هنا لواحد من قدماء الموسوعيين المغاربة، عبد الله فريد وجدي، ليس إلا مثالا على وجود عدد من الكتاب والدبلوماسيين المغاربة، الذين كانوا مكلفين بمهام لدى الدول الأوروبية. هؤلاء، بالإضافة إلى الشخص الذي اطلع على الرسالة المترجمة من الإسبانية إلى الفرنسية، بخصوص خطبة المولى إسماعيل لابنة لويس الرابع عشر، يمثلون نموذجا عن نخبة المشتغلين المبكرين في السلك الدبلوماسي المغربي، قبل قرون خلت.