شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

تعلمتُ التصوير ووثقتُ لأنشطة المقاومين والتطوانيون فضلونا على أنفسهم

صفحات كتاب حياة في ظِلّ ملِكين للمقاوم المختار الزنفري

أجبت المهدي بأنني لا يمكن أن أعطيه آلة التسجيل لأنها ليست ملكي، ولا حق لي في إعطائها لأحد. وأنها أمانة حصلتُ عليها من سي علال الفاسي، ولا يمكنني إعطاؤها لأحد، حتى لو كان المهدي بن بركة.

يونس جنوحي

 

الفصل الثاني:

أيام تطوان.. وجوه من جيش التحرير في الشمال

في تطوان، كانت الأوضاع مختلفة. سرعان ما اندمجتُ مع أناسها الطيبين. كانت دار سي عبد الخالق الطريس، لا تهدأ. وفيها تعرفتُ على مقاومين أفاضل ينحدرون من منطقة الشمال. والحق أنهم أسدوا للمقاومة وجيش التحرير، الكثير.

بحضور الصحافي أحمد زياد، اندمجتُ سريعا في المجتمع التطواني الجديد. وبتوجيه من الزعيم سي علال الفاسي، صارت لدي مهمة محددة في المنطقة، وهي التوثيق لللاجئين الذين بدأوا يتقاطرون علينا من الدار البيضاء، هربا من البوليس الفرنسي، وأحكام الإعدام والسجن بسبب أنشطة المقاومة.

 

التصوير.. ذاك الشغف

أول مهمة كانت أمامي، أن أتعلم تقنيات التصوير الفوتوغرافي. فقد كانت فكرة القيادة، خصوصا سي علال الفاسي، تتمثل في أن أتكلف بالتقاط صور تعريفية لكل لاجئ جديد، وأعد عنه ملفا يتضمن معلومات عنه. من أين ينحدر؟ وما تُهمته؟

جُل الذين جاءوا إلينا في سنة 1954، كانوا منخرطين في حزب الاستقلال. وحتى الذين لم يكونوا منخرطين في الحزب، كانوا متعاطفين معه، وانخرطوا في الخلايا السرية للمقاومة، وأنشطتهم الوطنية هي سبب مجيئهم إلى هنا.

كنا نطلق على آلة التصوير اسم “الماكينة”. لم تكن لدي في السابق أي دراية تُذكر بميدان التصوير. نهائيا. لكن سي علال الفاسي أرسل إليّ بضع آلات تصوير، ووجهني أحمد زياد إلى الاشتغال في المهمة المنوطة بي.

لكن قبل ذلك، قضيتُ فترة تدريب قصيرة مع مصور إسباني كان يعيش في تطوان. كان الهدف أن أتعلم منه كيف يشتغل بآلة التصوير، وتعلمتُ عنده كيفية تحميض الصور في القاعة المخصصة لذلك.

في الحقيقة، لم تكن العملية مُعقدة، وتعلمتُ سريعا كيفية تشغيل آلة التصوير، وكيفية استعمال “الفلاش”. وأمام هذا التقدم السريع الذي حققته، اقترح سي علال الفاسي أن أفتح محلا للتصوير في قلب مدينة تطوان.

لكن الغرض من فتح محل التصوير لم يكن إحداث مشروع أو البحث عن عمل. بل كان القصد توفير مقر سري للمقاومين، بعيدا عن أعين رقابة بوليس الاستعلامات الإسبانية الذين وقعت بيننا وبينهم صولات وجولات.

تدبرتُ كراء محل صغير جدا، وافتتحتُ محل التصوير، وفي الخلفية كانت هناك غرفة صغيرة جدا، لتحميض الصور.

سرعان ما أصبح الأستوديو “مرجعا” لتحديد موقع المقاومين واللاجئين الجُدد. إذ أصبحوا يأتون عندي وأتكلف بنقلهم بنفسي إلى دار الطريس ومن هناك نتدبر لهم مكانا لكي يستقروا فيه إلى أن تهدأ الأوضاع أو يصدر قرار بإسقاط التهم عنهم.

اكتشفتُ أنني أصبحت شغوفا بالكاميرا. وصار التصوير عصب حياتي اليومية في مدينة تطوان. ودائما تجدني، أقفز من مكان إلى آخر، بحماس، لالتقاط صور للمقاومين، وتوثيق أجواء إقامتهم في تطوان. وبفضل هذه العملية، حُزت أرشيفا نفيسا من الصور.

لكن للتغطية على المهمة الحقيقية التي كنت أمارسها، كان عليّ أن أمموه قليلا..

من الأمور التي وُفقت إليها عندما كنت أملك محل التصوير، أنني وثقت لمناطق عمليات جيش التحرير المغربي في الشمال. وصورت فرق عباس المساعدي، الذي توطدت علاقتي به أكثر سنة 1954 عندما كان في أكنول.

التقطتُ صورا للأسلحة التي كانت متوفرة لأعضاء جيش التحرير، ووثقتُ لعمليات التدريب، وصوّرتُ شخصيات وطنية أثناء زيارتها لمناطق الشمال.

 

حفلات الإسبان

كنت أصادف دائما جنودا إسبانيين ببذلاتهم العسكرية المميزة، وهم يقطعون شوارع تطوان وأزقتها. وفكرت في جعلهم موردا للرزق، وأيضا مصدرا لإبعاد الشكوك عني.

وهكذا تبادرت إلى ذهني فكرة أن أحضر الحفلات والسهرات التي يقيمها الجنود الإسبان في المقاهي والفنادق القليلة الموجودة في تطوان.

وفعلا تأبطتُ آلة التصوير، وحملتُ معي “الفلاش” المستعمل للإضاءة أثناء التصوير الليلي. ولعب هذا الأخير دورا كبيرا في الخُدعة التي فكرتُ فيها..

فقد وجدتُ في تلك الحفلات بعض الفتياتة اللواتي تعملن هناك إما في المطبخ أو السخرة، وحزّ في نفسي كثيرا أن ألتقط لهن الصور، خصوصا وأن الجنود الإسبان كانوا يطلبون مني التقاط الصور أول ما يلمحونني داخلا إلى المكان. فقلتُ في نفسي، لم لا أوهمهم فقط أنني ألتقط الصور الآن، وبعد ذلك أتدبر أمري معهم عندما يأتون إلى الأستوديو لسحبها.

كانوا يؤدون لي ثمن الصورة مسبقا. وكل ما التقطتُ صورة لمجموعة من الجنود، وإلا وحصلتُ على مقابلها فورا. وبطبيعة الحال فقد كانوا يعرفون مكان الأستوديو الصغير الذي أشتغل فيه، ويأتون في اليوم الموالي لسحب صورهم. لكني لم أكن أنتظر قدومهم، بل أبادر إلى التواصل معهم قبل وصولهم إليّ وأخبرهم أن عطلا قد أصاب الكاميرا، وأن الصور قد “احترقت”.

لحسن الحظ، كانوا يقبلون هذا العذر، وينصرفون إلى حال سبيلهم.

أما أنا، فكنت أستعمل المال الذي أحصل عليهم منهم، في اقتناء الطعام للاجئين الذين كانوا يقطنون إما معي، أو مع المجموعات التي يزداد عدد أفرادها باستمرار..

حتى أن الإخوان المقاومين، كانوا يستبشرون خيرا عندما يرونني أستعد لحمل آلة التصوير مساء للخروج إلى أماكن احتفال الجنود الإسبان. فقد كان هذا يعني حصولهم في اليوم الموالي على وجبات دسمة، تُنسيهم همّ الوجبات المتواضعة التي كانوا يحصلون عليها في بقية الأيام.

 

المُهاجرون والأنصار

لقد كان ينطبق علينا فعلا لقب المهاجرين. كما أن التطوانيين استحقوا عن جدارة لقب “الأنصار”. فقد كانوا يؤثروننا على أنفسهم. ولا زلتُ إلى اليوم، أتأثر عاطفيا كلما تذكرت الإيثار والبذل الذي يتمتع به أهالي تطوان الطيبون. فقد آثرونا على أنفسهم، ولم يتقاسموا معنا طعامهم فقط، بل منحونا ما لديهم، في تضحية قلما تتكرر..

أغلب العائلات التطوانية كانت متوسطة الحال. وبسبب أجواء الاحتقان، فقد كانوا يعيشون حياة لم تكن سهلة بالمرة. ورغم ذلك، فقد كانوا لا يترددون في تخصيص مساعدات للاجئين، خصوصا عندما يسمعون عن العمليات والتضحيات التي بذلها هؤلاء الضيوف قبل مجيئهم إلى تطوان.

كان هناك تطوانيون ميسورون، ولم يترددوا في منح الإعانات للمقاومين. بل حتى النساء التطوانيات أبنّ عن بطولات، ولم يترددن في دعمنا، رغم إدراكهن أن الاستعلامات الإسبانية تُراقب المدينة. ووفرن الطعام واللباس لأعضاء المقاومة.

 

آلة التسجيل “الثورية”

كانت هناك مبالغ مالية تُوزع بالتساوي على الإخوان اللاجئين، وصارت تتوفر لدينا لوائح وسجلات واضحة ومُحينة. وبفضل هذه اللوائح، كانت الإعانات تصل إلينا منتظمة، لكنها سرعان ما أصبحت تتأخر، إلى أن انعدمت، بسبب صعوبات التمويل، خصوصا وأن سنتي 1954 و1955، كانتا حافلتين بعمليات المقاومة.

وأمام هذا الوضع، كان علينا تدبر أمورنا في ظل الشح والخصاص. حتى أن بعض المقاومين لم يكونوا يجدون ما يسدون به رمقهم. ولولا تدخل بعض التطوانين الكرماء للتخفيف عنهم، لازداد الوضع سوء.

لم يكن الدعم الذي يصلنا يقتصر فقط على الإعانات المالية، بل كان هناك دعم آخر يتمثل في “اللوجيستيك”..

كان سي علال الفاسي يزور المنطقة بين الفينة والأخرى. وكان وصوله حدثا كبيرا يحتفي به الكبير والصغير. وفي إحدى زياراته إلينا، اطلع على ما كنت أقوم به، خصوصا في مجال التصوير، ووعدني أنه سيبعث إليّ بعدة جديدة.

علمتُ في ما بعد أن سي علال ذهب إلى القاهرة، وأرسل إلي من هناك آلة تسجيل صغيرة، لتوثيق الاجتماعات.

لا زلت أذكر شكل آلة التسجيل تلك. فقد كانت سابقة لزمانها إن صح القول. ويمكن ارتداؤها وإخفاؤها أسفل البذلة. وهو ما جعلها بالنسبة لنا “ثورة” في استعلامات المقاومة. وقد فقدتها للأسف، في ظروف غامضة.

سرعان ما وصل خبر آلة التسجيل إلى مختلف قيادات حزب الاستقلال. وهنا يحضرني أمر طريف، كان موضوعه آلة التسجيل إياها. فقد جاء المهدي بن بركة إلى تطوان، ولمح آلة التسجيل عندي، وطلب مني أن أعطيه إياها لحاجته إليها.

والذين يعرفون المهدي بن بركة عن قُرب، يعرفون جيدا “هوسه” بتوثيق الملاحظات وتسجيلها. ولا بد أنه رأى في آلة التسجيل غرضا مهما لتسهيل عمله.

أجبت المهدي بأنني لا يمكن أن أعطيه آلة التسجيل لأنها ليست ملكي، ولا حق لي في إعطائها لأحد. وأنها أمانة حصلتُ عليها من سي علال الفاسي، ولا يمكنني إعطاؤها لأحد، حتى لو كان المهدي بن بركة.

قال لي بعض المقاومين إن امتناعي سوف يغضب المهدي بدون شك، لكني لم أعر الأمر أي اهتمام.

لكن أطرف واقعة تتعلق بهذه الآلة، أنها بقيت بحوزتي إلى أن عاد الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، وكنت أحملها معي دائما. وعندما زار ولي العهد، الأمير مولاي الحسن، منطقة الشمال، كنت لا أزال أحمل معي تلك الآلة، وكان الدكتور الخطيب على علم بهذا الأمر ويعرف قصتها و”قُدراتها” أيضا. فأخبر ولي العهد أنني أحمل معي آلة تسجيل صغيرة، وأمرني ولي العهد بإزالتها.

لازمتني آلة التسجيل تلك لسنوات، وفقدتها بمعية صور أخرى من زمن تطوان، في ظروف غامضة.. ولحُسن الحظ أن أرشيفي الخاص لم يضع، وبقيت حزمة مهمة من الصور الفوتوغرافية شاهدة على تلك المرحلة.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى