شوف تشوف

الرأي

تخطيط القلب

مريم كرودي

 

 

 

في غرفة العمليات، وبعد ساعات متواصلة من الدقة، حمل الصغير إلى غرفة أخرى سبقه إليها أهله، ثم قام الطبيب بإصدار صوت ليقفز الصغير مستغربا، بعد أن أوصل الأخير أذنيه بتقويم السمع، بكى وضحك ثم ذرف من حوله دموع الفرح احتفاء بحاسة جديدة لامست قلبه لأول مرة.

في الغرفة المجاورة يفارق أحدهم الحياة إلى الأبد ويودعها تحت ظل حزن عميق، تشهد عليه صرخة أم تمنح الحياة لرضيع، تبعد عنه ببضعة أمتار فقط.

في صباح بارد شتوي، يلتم الأبناء برفقة أمهم حول مائدة الفطور ليكسر صمتهم صوت الباب: من هناك؟ يجيب الأب الذي غاب لسنين طويلة في حدود الوطن: أنا هنا ها قد عدت..! سرعان ما يدفئ البيت وسرعان ما تتسلل الفرحة إلى إبريق الشاي الكئيب.

في اللحظة نفسها، وفي بيت آخر من هذا العالم، يلتمّون هم أيضا لكن ليس حول الفطور، أبناء أتوا من أماكن بعيدة ليلبوا نداء الوالد الذي سقط طريح الفراش منذ مدة، يجلسون حوله وتنهيداتهم وحدها تدفئ الغرفة…!

هنا سجين يتوج بحصوله على شهادة الباكالوريا بعد أن قرر استغلال الفراغ العالق فيه، وهناك رفيقه الذي لا يزال يتوسط الزقاق الشعبي يداول الأيام ويرتشف الضياع جرعة تلو أخرى… يلعن الحياة ويتأفف…

هي الحياة المتباينة أطوارها تشعل لهيب الفرحة أحيانا وتغلق أبواب الجنة أمام أعيننا في أحيان أخر…

هي الحياة حلوها مر ومرها حلو وجمالها في تذوق الاثنين معا.

كالقهوة العربية، تماما، التي لا يستشعر مذاقها الأصيل إلا بالمرار فيها..

كتخطيط القلب المتصاعد والمنخفض والذي يأبى التوقف وإلا فالموت ينادي..

كالليل الذي يسبق النهار حتى يهيئ الأرواح لاستقبال جمال الشمس..

كالساعة التي تنبض عقاربها وتلمس رمح السعادة والعذاب، رمح الأمل والألم…

كأفكارنا، كنفسياتنا، كرغباتنا وأحلامنا… تشبهنا الحياة كثيرا، تشبه ذرات الشح فينا والكرم وكل ما يميزنا من اختلال وتوازن…!

ثم نتذمر!! حين يصيبنا مكروه ما، نشتكي ونتجهم، نكاد ننسى أن الحياة نسخة مطابقة لنا في صورة أشد شساعة، تفعل كما نحن نفعل ولا تعكس إلا ما تخزنه دواخلنا من مد وجزر، تغيير لونها حسب الفصول والوضعيات التي نعيش، وتسافر وإيانا على متن سفينة القدر، لنحط الرحال بجزيرة ترضينا تفاصيلها تارة وأخرى تشعرنا باليأس تارة أخرى، فقط وحده الرضى قادر على تزيين الصورة في أعيننا، وعلى جعلنا نطمئن للمستقبل وننسى الماضي دون أن نضيع اللحظات الآنية.. هو وحده الذي يمكننا من ارتشاف الجمال بقلب سليم مستسلم.. ومن استيعاب حركة التخطيط التي تستوجب الحركة وإلا فلا حياة… ووحده الذي يريح الفؤاد ويبعث السكينة، يحثنا على الصبر ويلون الأفق أمامنا على أن الغد الأيام ملونة ولا لون قار لها.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى