شوف تشوف

الرئيسيةسياسيةملف التاريخ

تجربة سجن الجديدة وورطة اغتيال مُخبر كانت وراء انتقالي إلى تطوان

صفحات كتاب حياة في ظِلّ ملِكين للمقاوم المختار الزنفري

كان أحمد زياد قد سبق إلى الانتقال إلى مدينة تطوان. وأود هنا أن أشير إلى حقيقة تاريخية، ليست معروفة. وهي أن الصحافي أحمد زياد كان أول مقاوم ينتقل إلى المنطقة الخليفية في تطوان، هربا من نفوذ الفرنسيين. وأسس لهذا اللجوء الذي جعل من تطوان قبلة للمقاومين المبحوث عنهم والمحكوم عليهم خصوصا في الدار البيضاء

يونس جنوحي

كان يُخيل لي أنني عندما أحصل على أول مسدس في حياتي، فإن العمليات سوف تصبح سهلة. كان لدينا تصور «المبتدئين» للأمور.

في تلك الأثناء، كان أحد الإخوان، واسمه الفقيه «بلعالم»، مسجونا لدى الفرنسيين بسبب المنشورات السرية. وكان إبراهيم الروداني، رحمه الله، طلب منا أن نقترح عليه ثلاثا من نساء الكاريان، لكي يتولين توزيع مساعدات، يصرفها بنفسه، لفائدة بعض الأسر المعوزة داخل «الكاريان»، ويسهرن على إيصالها لمن يستحقها فعلا. وكانت زوجة هذا الرجل واحدة من النساء اللواتي جرى اقتراحهن، وفعلا تكلفن، رحمهن الله جميعا، بإيصال المساعدات إلى الأسر الأكثر عوزا وحاجة، بحكم درايتهن بأسر الكاريان وحقيقة معاناة زوجات المسجونين وأرامل الشهداء.

أردنا أن «ننتقم» لإخواننا المسجونين، خصوصا وأنني مررتُ بتجربة سجن أيضا.

 

السجن في الجديدة

عندما تأزمت الأوضاع داخل «الكاريان»، بسبب الاحتجاجات، كان إبراهيم الروداني أمرنا، بعدما استشرناه في الموضوع بطبيعة الحال، أن نغادر الكاريان. قال لنا إن كل الشبان، أصحاب الوجوه المعروفة داخل الكاريان، يجب أن يغادروه مؤقتا، ويلجأوا إلى أماكن أخرى إلى أن تهدأ الأمور. وفعلا غادرتُ صوب مدينة الجديدة. وكان هذا في سنة 1953 دائما.. أعتقد أنها كانت ما بين شهري شتنبر أو أكتوبر، أسابيع قليلة بعد نفي السلطان سيدي محمد بن يوسف.

لكن، للأسف، جرى اعتقالي في الجديدة مباشرة بعد وصولي إليها. وأذكر أن أحد أعوان السلطة هناك، لم يعد يحضرني اسمه للأسف، بدأ يسألني لماذا جئتُ إلى دكالة. قلتُ له إنني كنت في طريقي إلى الدار البيضاء، وأنني عندما وصلتُ إليها وجدتُ المظاهرات تملأ الشوارع، ورجعتُ إلى الجديدة. لكنه لم يصدقني، وبدأ ينتقد مظهري، خصوصا وأنني وقتها لم أكن أحلق رأسي، وقال لي مستنكرا إن «الدكالي» لا يجب أن يترك شعر رأسه يكبر بهذه الطريقة، وأنه يتعين عليه أن يكون حليقا. وتمت إحالتي على قاعة، عرفتُ في ما بعدُ أنها دورة مياه. وحشروني فيها، ووجدت ستة مقاومين قد سبقوني إليها. وأذكر منهم على الخصوص: المقاوم الكبير القادري، والد الجنرال القادري، ولد الزمورية، وكان يتوفر على «هري» ويمارس التجارة.

ومن الأمور الطريفة أن عون السلطة سلّط علينا مخبرا له في محاولة للحصول على معلومات منا عن المقاومة. قالوا لنا إنه اعتُقل لأنه كان سكران في الشارع ويسب فرنسا. وفعلا كان مستلقيا إلى جوارنا ويسب الشرطة والاستعمار، في محاولة لاستمالة تعاطفنا، لكن الحيلة لم تنطل علينا.

وبعد أن تحققت الشرطة الفرنسية من هويتي أحالوني على سجن الجديدة، بالضبط في سجن «السوار» الذي لا تزال أطلاله باقية إلى اليوم. كنا نقضي الليلة في السجن، وفي الصباح يأتون بنا إلى الكوميسارية لاستكمال التحقيق. وأذكر أن الكوميسير، الذي يحقق معنا، كان سوريا، يتحدث العربية بطلاقة، لكنه يحمل الجنسية الفرنسية.

كانت بناية السجن قلعة تاريخية، وربما يعود تاريخها إلى فترة البرتغاليين، وبها زنازين متفاوتة، وباردة جدا، وزعونا عليها. كان مسجونا معنا المقاوم سعيد بونعيلات، وتعرفتُ عليه هناك عن قُرب، وكان هناك مقاومون آخرون، التقيتهم مجددا في محطات أخرى، خصوصا خلال فترة المنفى في تطوان.

أما كيف أطلق سراحي، فقد كان لدي أخ من زواج والدي الأول، سبق له الاشتغال في الجيش الفرنسي، وكان يعرف الكوميسير السوري، وتوجه إليه وقال له إنه خدم في جيش فرنسا، وأن الفرنسيين اليوم يعتقلون أخاه الصغير، وأكد له أنني لا علاقة لي بالمشاكل. وأطلق الكوميسير سراحي بضمانة أخي، وقال له: «سوف أطلق سراحه شريطة أن تضمنه لكي لا يعود إلى المشاكل». وضمنني أخي بدون تردد. وعندما تورطت مرة أخرى، كما سوف أحكي لاحقا، سألوا أخي عني، لكنه أجاب بأنه لا يعرف عني أي شيء. وفعلا كذلك كان.

بعد تجربة السجن القصيرة في الجديدة، غادرتُ مجددا صوب الكاريان. ومع ازدياد تأزم الأوضاع السياسية، لم أكن أرى بدا من اقتحام عالم «المقاومة المسلحة»..

علمتُ لاحقا أن عون السلطة الذي استنطقني عند توقيفي، جرى اغتياله على يد مقاومين، وكان المقاوم الذي نفذ عملية الاغتيال من أبناء عمومتي. ولقي المتعاون النهاية المأساوية التي لقيها عدد كبير ممن كانوا يشتغلون لصالح البوليس الفرنسي. 

 

وجها لوجه

اقتنيت أول مسدس لي كما قلتُ سلفا. ورغم أن عملية الشراء لم تكن موفقة، لقلة خبرتي وحداثة سني، إلا أن مجرد الحصول على مسدس كان حافزا كبيرا لي. أتذكر جيدا أنني دفعتُ مقابل المسدس مبلغ 250 درهما -وهذا مبلغ كبير في ذلك الوقت وليس هينا- وانتظرتُ فرصة «استخدامه».

عندما حصلتُ على المسدس، خططتُ مع بعض الرفاق لكي نبدأ في اغتيال أعوان الاستعمار.

وكنا نخصص بعض الجلسات في الاجتماعات السرية، سواء في الكاريان أو في «فْضالة»، لهذا الموضوع بالذات. كانت آراء الإخوان متفاوتة حول تحديد هوية الأشخاص الذين سوف نستهدفهم. إذ لم يكن الأمر سهلا، إننا نتحدث هنا عن تصفية الخونة.

وكان أحد سكان الكاريان معروفا بأنه يعمل مع أحد الفرنسيين، فقررنا قتله. وتكلفتُ أنا بتنفيذ هذه المهمة. راقبتُ «البرّاكة» الصفيحية التي كان يسكنها الرجل مع أسرته، لبعض الوقت، إلى أن تأكدتُ أنه موجود في الداخل، واقتحمتُ عليه المنزل مُشهرا مسدسي للإجهاز عليه.. لكني لم أقو على تصفيته، فقد وجدته في وضع أسري مع أبنائه الصغار وهم ينتظرون أن تفرغ أمهم من إعداد الطعام. عموما، لم أكن أعلم وقتها أن الرصاصات التي أتوفر عليها «باردة» و«مغشوشة»، ولم تأت الفرصة لكي أستعملها، لكن الإخوان الذين كانت لديهم خبرة بهذه الأمور أكدوا لي لاحقا، بعدما عاينوا المسدس والذخيرة، أن الرصاصات «باردة» ولا يمكن استعمالها نهائيا.

هذا المشهد هزّني بعنف، فقد كان الأب يتوسط مساحة «البرّاكة» البئيسة، ويجلس فوق أرضيتها المتسخة، وحوله أطفاله الصغار يتحلّقون حوله ويُلاعبهم بنفسه. بينما في الزاوية كانت زوجته، اعتمادا على ضوء «لمبة» خافتة، تتولى إعداد الطعام لهم. ولم أقو على جعل الأطفال يتامى والزوجة أرملة. فخاطبتُ الرجل، الذي لم يُبد بالمناسبة أي مقاومة تُذكر وظل يتوسل إليّ لكي لا أجهز عليه، وقلتُ له أن ما يقوم به غير مقبول وأنه يتعين عليه أن يقطع علاقته بالفرنسيين الذين يقتلون أبناء بلده ويغتصبون أرضه.

وفعلا وعدني الرجل أنه سوف يتخلى عن التعامل مع الاستعمار، وأنه لن يشتغل أبدا لدى الإدارة مع بقية الأعوان الذين يزودون المستعمر بالمعلومات أو يتولون أعمال السخرة مثل إعداد الشاي للموظفين أو حمل الأوراق. وغادرتُ.

 

ضاق «الكاريان» بما رحُب..

بعد هذه العملية مُباشرة، أحسستُ أن «الكاريان» بدأ يضيق عليّ أكثر من أي وقت مضى. فالمُتعاون الذي استهدفناه، ولم أقتُله، نقل ما دار بيني وبينه إلى الشرطة. وبما أنه أخبرهم أنني مُسلح، فقد أصبحتُ مطلوبا، بل وعلى رأس قائمة المطلوبين.

فقد جاء أخي إلى الدار البيضاء، بعدما علم أن البوليس يبحث عني هذه المرة بتهمة أكبر وأخطر، وتوجه إلى منزل عمتي وسألها إن كانت تعرف المكان الذي أختبئ فيه. وما أعرفه يقينا أن أخي لم يصب بأي مكروه بسبب نشاطي في المقاومة.

بعد أن بات مؤكدا أنني صرتُ عنصرا خطيرا في نظر الشرطة الفرنسية، لم أجد بُدا من اللجوء إلى دار إبراهيم الروداني، خصوصا وأن صديقي عباس المساعدي أشار عليّ بضرورة استشارة «Le père» في هذه النازلة التي لم أختبر مثلها من قبلُ.

وفعلا التجأتُ إلى داره، وبقيت هناك في انتظار ما سوف يُقرره.

كان أحمد زياد قد سبق إلى الانتقال إلى مدينة تطوان. وأود هنا أن أشير إلى حقيقة تاريخية، ليست معروفة. وهي أن الصحافي أحمد زياد كان أول مقاوم ينتقل إلى المنطقة الخليفية في تطوان، هربا من نفوذ الفرنسيين. وأسس لهذا اللجوء الذي جعل من تطوان قبلة للمقاومين المبحوث عنهم والمحكوم عليهم خصوصا في الدار البيضاء.

والسببُ أن مقالاته التي كان يوقعها باسم «أبو طارق»، في صحيفة «العَلم» دائما، كانت تزداد حدة وتنتقد سياسة فرنسا في المغرب. وبحكم أنه كان مقربا جدا من الزعيم الوطني علال الفاسي، فقد أشارت القيادة إليه أن يتوجه إلى المنطقة الخليفية في تطوان، التي كانت تحت إدارة الإسبان، وغير خاضعة لنفوذ الفرنسيين لكي يحتمي هناك، ويبقى بعيدا عن قبضة الشرطة الفرنسية.

عندما أشار إليّ إبراهيم الروداني بضرورة الالتحاق بتطوان، باعتبار هذا الخيار الحل الأوحد أمامي حتى لا يكون مصيري الاعتقال وربما الإعدام، لم أع وقتها أنني أضع قدمي في بداية مسار آخر، بل حياة أخرى، عشتها في تطوان، في ضيافة سياسي كبير رحمه الله، ظلمته السياسة قبل أن يظلمه التاريخ، وهو الوطني الكبير عبد الخالق الطريس.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى