تبرئة الذات واتهام الآخر
![](https://www.alakhbar.press.ma/wp-content/uploads/2022/04/خالص-2-1024x749-1.jpg)
بقلم: خالص جلبي
في عام 1248م سقطت إشبيلية في يد الإسبان،
وبعدها سقطت بغداد في يد المغول عام 1258م بفارق
عشر سنوات، وبذلك سقط جناحا العالم الإسلامي
واكتمل الكسوف العربي من سماء التاريخ. ومسلسل
الانهيار هذا ما زال ماضيا في طريقه، بعد أن انطفأت
شمس الحضارة الإسلامية على ما قرره العلامة «ابن
خلدون» بجملته المشهورة: «وكأني بالمشرق قد نزل
به مثل ما نزل بالمغرب على نسبته ومقدار عمرانه،
وكأنما نادى لسان الكون بالخمول والانقباض، فبادر
بالإجابة». ولا يخرج الاستيطان الصهيوني عن حلقة
في هذا المسلسل فهي الحملة الصليبية الثامنة، هذه
المرة ليس في الجناح، بل القلب.
ونحن عندنا فكرة عن الحملات الصليبية السبع التي
دامت 271 عاما، من عام 1099 التي دشنها البابا
أوربان الثاني، وانتهاء بوقوع الملك لويس في الأسر
بيد المماليك في المنصورة بمصر، ثم افتداء نفسه
بمال وفير. وبعد 271 عاما تابع بيبرس المملوكي
حملة التطهير في الساحل الشامي، وبذلك دامت
الحملات الصليبية السابقات حتى نهايتها قرنين من
الزمان، ويعقب على هذا الصورة محمد عبده فيقول:
أخطر ما فيها الشعور بنهايتها.
والسؤال المفزع إلى أين يمضي مخطط الانهيار؟ ثم
من هو خلف الانهيار الذي يكتمل كسوفه يوما بعد
يوم، وتشتد ظلمته مع الوقت؟ من هو المتسبب في
المرض المزمن؟ هل هو هجوم خارجي، أم اعتلال
داخلي؟ يحلو للعرب دوما أن يوجهوا أصبع الاتهام إلى
الأعداء الذين يحتلون طيفا كبيرا لا يكف عن الاتساع،
فهم أمريكا والصهيونية والصليبية العالمية
والماسونيون. وإذا فرغت الجعبة فيمكن اللجوء إلى
سلاح استخدمه الشيطان عندما أرجع خطأه إلى الله
«بما أغويتني»، وبهذا السلاح يمكن أن يخرس أمامه
كل لسان، طالما تدخلت الإرادة الإلهية على الخط .
ويبدو أن هذا المرض قديم في الثقافة العربية، فقد
نسب مشركو الجزيرة العربية شركهم إلى الله، فقالوا:
«لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من
شيء»، وبالتحلل من المسؤولية وإعادة الأمور إلى
الإرادة الإلهية يتعطل كل جهد ويغيب الوعي في
المنفى؛ فماذا يملك البشر أمام قدرة الله؟ ولكن اتهام
الآخر هو وجه العملة المقابل لتبرئة الذات، وهناك
علاقة متبادلة بين الحقلين. واتهام الآخرين يحمل آليا
صك براءة للذات. والعقل حينما يمشي إلى الخارج
لاكتشاف سبب الانهيارات، يقوم بثلاثة أخطاء قاتلة:
أولا في التحليل المنهجي، وثانيا في ممارسة خطأ
علمي، وثالثا في إحداث مرض نفسي.
ـ فأما خطأ المنهج فلا يمكن أن يولد أي حدث بدون
تضافر حزمة من العناصر، سواء في الطبيعة مثل
سقوط غصن، أو السياسة عندما تنهزم دولة في
حرب، أو في الحضارة عندما تموت أمة.
ـ وأما أنه غلط في العلم فهو في نقل الهامشي إلى
مركزي، والأساسي إلى عنصر مغيب. ونحن نعرف من
علم الأمراض أن انفجار المرض لا يحدث بسبب وجود
الجرثوم، بل بالاستعداد له بانهيار الجهاز المناعي.
وهذا يفسر اندلاع الأوبئة في أمكنة دون غيرها، ولم
يكن الطاعون ليعود مجددا إلى الهند، لولا تقديس
الجرذان.
ـ وثالثا تخلق الحالة النفسية أثناء زحزحة المسؤولية
عنها ودفعها باتجاه الآخرين إلى انفراج نفسي مترافق
بتعطيل آلية الجهد الذاتي؛ فطالما وجدنا فاعل
الجريمة، فإن كافة أنشطة التحريات عن المجرم
الحقيقي تتوقف. وهل سمعنا أن الشرطة تابعت
الاستجواب بعد إلقاء القبض على المجرم.
وهذا المرض الشيطاني يدخل الإنسان والمجتمع رحلة
اللاعودة واللاتوبة واللعنة. وفلسفة القرآن تقوم على
مراجعة النفس والاعتراف بالذنب، «رب إني ظلمت
نفسي». وقصة آدم المحورية تبحث في جغرافيا
النفس الإنسانية لاكتشاف مصادر الطاقة، لأن الرجوع
إلى الذات يرتبط بتحرير الطاقة، ونحن إن لم نكف عن
اتهام الآخرين فلن نتخلص من مرض عبادة الذات.
وهذا التحليل النفسي ضروري مع وضع الكارثة التي
نعيشها.
وهناك مرض آخر لا يقل خطورة عن الأول ويتولد
منه، حين نؤشر بأصبع الاتهام إلى الزعامات. فالحاكم
لا يزيد على قميص مناسب لجسم طفل لم ينم بعد. وفي
الوقت الذي يشب ويكبر حجمه يبدل الثوب، أو يتمزق.
والفوضى السياسية التي نعيشها هي تحصيل حاصل
لجسم مريض ضامر. ويعلمنا القرآن أن الله لا يغير ما
بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
إن أفظع ما يصيب المجتمع قتل التعبير فيه، ولا يمكن
لآلة أن تعمر بدون الصيانة الدائمة لها. ولا فلاح
للإنسان بدون ممارسة النقد الذاتي، لأن المراجعة
تعني اكتشاف الأخطاء المختبئة، وهذا يعني وضع آلية
التصحيح الذاتي التي تقود إلى نمو لا يتوقف.
والسياسة في العالم العربي في حالة استعصاء،
فالتعبير مشلول. ولا نحسن صيانة أجهزتنا فضلا عن
تطويرها. ولا نعرف النقد الذاتي إلا لعنا خفيا للحكام،
مثل المريض الذي يلعن جراثيم التيفوئيد للشفاء منه.
من التراث الكردي أن الملا الكردي (الأستاذ) يترجم
نصا فقهيا من العربية لتلامذته. كانت الفقرة تقول:
«إذا وقعت الفأرة في السمن فخرجت حية، يبقى
السمن حلالا». عندما وصل الملا إلى كلمة (حية)
ترجمها (ثعبانا)! استغرب أحد الطلبة وسأله يا ملا:
كيف خرجت ثعبانا وكانت فأرا؟ صاح به الأستاذ:
اخرس أيها الفاسق إنها قدرة القادر.
إن وضع العالم العربي يدعو للضحك أكثر، وعندنا
استعداد أن ندخل الفوضى والتناقض إلى النظام
الكوني، على أن نراجع أنفسنا.
نافذة:
العقل حينما يمشي إلى الخارج لاكتشاف سبب
الانهيارات يقوم بثلاثة أخطاء قاتلة أولا في التحليل
المنهجي وثانيا في ممارسة خطأ علمي وثالثا في
إحداث مرض نفسي