شوف تشوف

الرأي

بادية الظلمـات

إن كانت من خصوصية مغربية يمكن أن نحققها في رهان التحديث، فسيكون حتما بأن نبتعد عن النماذج غير المشرفة للتحديث، والتي تعيشها أمم منها «الشقيقة»، مثل إمارات الخليج، حيث تتساكن ناطحات السحاب والحكومات الرقمية جنبا إلى جنب مع «البدون» والأمراء الذين يتوارثون الاستبداد و«العبقرية المجني عليها»، ومنها الصديقة من قبيل باكستان وبنغلاديش، حيث تتساكن صناديق الاقتراع مع ثقافة تقديس «الأنبياء» و«الآلهة» الذين يتناسلون كل يوم هناك..
يتعلق الأمر بأن نجيب دون تردد عن سؤال نموذج الإنسان المغربي الذي ما فتئنا نمدحه، دون أن نعمل شيئا لصناعته وتشكيله.. إنسان كوني أولا، ثم إنسان متعدد ومنفتح ثانيا، وأخيرا مواطن ثالثا.. وباختصار إنسان مفكر وليس فقط «مطبق»، لا لإنسان نعلمه كيفية إتقان صناعة واستخدام البرمجيات الرقمية، ليهاجر في غفلة من أسرته إلى «داعش» و«النصرة» و«القاعدة»، ويضع ما علمناه إياه في خدمة أمراء الدم وأعداء الحياة، الذين قدموا أبشع صورة عن العربي المسلم عبر التاريخ، صورة الإعدامات الجماعية لشباب بسبب أسمائهم الشخصية، فضلا عن جز الرؤوس وسبي النساء وختان الشيوخ… والافتخار بذلك.
أقول هذا وأنا أفكر الآن في التصريح غير المسؤول لوزير التعليم العالي، والذي وصف فيه الأدبيين بالخطيرين على المجتمع، علما أنه هو أيضا يتحدر من تكوين اقتصادي، اللهم إلا إذا كان «سعادته» يصنف نفسه إلى جانب علماء أمثال «إنشطاين» و«بيير دي فيرمات»… أقول هذا وأنا أفكر في المشاريع التي خرجت لنا بها وزارة التربية الوطنية، من قبيل الباكلوريا الدولية والباكلوريا المهنية، معتقدة أنها وجدت أخيرا «البلسم» لمشكلة التعليم، مع أن الهدف الأخير من كل هذا، وكما قال العروي حفظه الله مرارا، هو تنفيذ حرفي لتعليمات صندوق البنك الدولي، والتي تستهدف جعل مدارسنا وجامعاتنا تختص في تكوين «أياد ماهرة» و«ألسنة متواصلة»، وهنا «العمل» في «مراكز النداء» و«معامل» إنتاج الأسلاك الكهربائية «طموحا».
هكذا نختزل إشكالية شائكة هي علاقة اللغة بالفكر، وبدل أن نعلم اللغة والفكر والأدب اللذين أنتجا بها، فضلنا فقط أن نعلم اللغة لمعرفة استعمال التقنيات المادية التي أنتجها الناطقون باسمها.. هكذا سنستهدف من تكوين تلامذتنا في الباكلوريا الفرنسية، تعلم العلوم والأدب باللغة الفرنسية، وذلك بمناهج مستوردة من فرنسا، لكننا ننسى أن اللغة الفرنسية بالنسبة لنا تظل «لغة أجنبية»، أي سنتخذ من الأدب مطية لتدريس قواعد اللغة، بينما التلميذ الفرنسي يدرس باللغة الفرنسية لأنها لغته الأم، والفرق بين الأمرين كبير جدا. فنحن سنعلم تلامذتنا الفرنسية ليس ليقرؤوا «أندريه جيد» و«هنري برجسون» و«صمويل بيكيت» و«كلود سيمون»..، ولكن ليعرفوا قراءة «كاطالوغات» الآلات المستوردة وكيفية تشغيلها، وكذا حسن الإنصات لـ«خبراء» الصناعة والتدبير الذين يتم استقدامهم من فرنسا وكندا وبلجيكا لرفع مردودية إنتاج مصانع وإدارات الأغنياء من بني جلدتنا. إننا نطمح لوضع ليس ببعيد عما وصفه الراحل عبد الرحمان منيف بـ«بادية الظلمات». والسؤال هو: هل هذا هو المغربي الذي نريد؟ هل هذا هو المواطن الذين نريد أن نباهي به الأمم ونصنع به حضارة متميزة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى