باب نصف موارب
ليس حدثا عارضا، ففي الإمكان ومن الواقعية والعقلانية تفهم صدمة الأشقاء التونسيين، جراء ما لحق بلادهم من أعمال إرهابية وحشية ومدانة. إلا أن إلغاء رحلات شباب مغاربة في اتجاه تونس، بطلب من سلطاتها، ليس مبررا. أقله أنه لا يوجد في سماء علاقات البلدين سحب ملبدة، لا سياسيا ولا اقتصاديا، ولا في نطاق التزاماتهما المشتركة بتفعيل الوئام المغاربي المفقود.
كيف يمكن أن نفهم هذا الإجراء، في حال تصنيفه في الحرب الوقائية على الإرهاب، خصوصا وأنه يطول تعزيز خطوات التفاعل والحوار بين شباب البلدين. فالمغرب ليس ليبيا ولا الجزائر، وما يميزه من استقرار يبعده كثيرا عن خانة الدول التي فقدت زمام السيطرة على حدودها وأجوائها ومجالات نفوذها السياسي والأمني والاقتصادي. وإذا كان فرض حالة الطوارئ في تونس حتم عليها اتخاذ ما يجب من حذر واحتراز، فالموقف لا ينسحب بأي شكل من الأشكال على رحلات الشباب المغاربة المؤطرة أصلا. وبالتالي فالمسألة ترتدي طابعا آخر يصل إلى درجة التشكيك في نوايا شباب مغاربة، كل ذنبهم أنهم اختاروا تونس وجهة أسفار.
يدرك أي محلل موضوعي للجغرافية السياسية لبلدان الفضاء المغاربي، أن تونس كانت معرضة دائما لضغوط وإكراهات الجوار، إن لم تكن من طرف ليبيا على عهد العقيد معمر القذافي باعتبارها مصدر توتر واستغلال لحتمية الجوار، فإن الجزائر دأبت بدورها على ممارسة شتى الضغوط. ولا يتطلب الموضوع كبير عناء لإدراك أن استهداف المغرب من لدن السلطات الجزائرية أصبح مرادفا للسياسة الجزائرية، إن على المستوى الثنائي الذي ينطبع بانعدام الثقة، أو على الصعيد متعدد الأطراف. ومن بديهيات استغلال الفرص أن الجزائر تدفع دائما في اتجاه تقديم المغرب على غير صورته الحقيقية للإساءة إلى علاقاته.
ننزه ساسة تونس عن أن يكونوا وقعوا تحت هكذا تأثير، من جهة لأن العلاقات المغربية – التونسية تعتبر نموذجية وخالية من أسباب الخلافات، أيا كان نوعها. ومن جهة ثانية لأن دعم التجربة السياسية الناهضة في تونس ما بعد الثورة شكل خيارا استراتيجيا لدى المغرب، الذي يحترم إرادة الدول والشعوب في ترسيم خياراتها ومواقفها بكل حرية وتقدير. لكن اتخاذ قرار من هذا النوع ليس وجيها، كون جانب في الإحالة، يشير إلى كثير من الالتباس والغموض والاستعداء المجاني.
لا بأس من التذكير بأن البعد السيادي في اتخاذ القرارات غير قابل للتصرف. فالمغرب بدوره اضطر في وقت سابق إلى حظر رحلات الطائرات الليبية نحو أجوائه. وقد فعل ذلك بخلفية الحذر واليقظة والحيلولة دون استعمال مجاله لتسلل التنظيمات الإرهابية والأعمال التخريبية والإجرامية. غير أن هناك اتفاقا مبدئيا غير مكتوب على أن ليبيا تحولت إلى بؤرة توتر، بدليل تغلغل تنظيم ما يعرف بـ«الدولة الإسلامية»، وتعرض مواطنين تونسيين وعرب إلى الاختطاف والاغتيال، في وقت تسود فيه الفوضى والاضطرابات. ولم يمنع هذا الموقف السلطات المغربية من استضافة جولات الحوار السياسي الذي يعول على أن يقود إلى إقرار مصالحة تاريخية بين الأطراف المتناحرة.
منطقيا فإن زيارة الوفود الشبابية وإقبال السياح على زيارة تونس يشكلان الرد الفوري والواقعي على استشراء الإرهاب، وأي دولة تعتبر وجهة سياحية، تعمل الشيء الكثير من أجل الحفاظ على تدفق السياح بوتيرة عالية، لأن ذلك يمكنها من تقديم صورة مغايرة لما تسعى إليه التنظيمات الإرهابية المتطرفة. وتندرج رحلات الشباب المغاربة في موسم العطل في اتجاه تونس في هذا السياق. فهي في كل الحالات تمثل دعما لمظاهر الاستقرار، فيما أن حظر هكذا رحلات يشي بأن الأمور ليست تحت السيطرة.
في الآونة الأخيرة برزت نبرة استعدائية ضد المغرب، تبنتها الجزائر بصورة ملحوظة، واتخذت من انتساب مواطنين مغاربة إلى تنظيم «داعش» حصان طراودة للتشويش على جهود السلطات المغربية في التصدي للأعمال الإرهابية. ومصدر الخلل في هذا التأويل المغرض أنه في حال انسحابه على كل البلدان التي التحق بعض مواطنيها بالتنظيم الإرهابي، لن تبقى هناك دولة أوروبية أو عربية أو إسلامية بمنأى عن الاتهام.
عندما يقر البريطانيون أو الفرنسيون أو الأمريكيون أو الهولنديون وغيرهم بالتحاق بعض مواطنيهم من النساء والرجال بتنظيم «داعش»، فليس معنى ذلك أن بلدانهم متورطة، بل يفعلون ذلك في إطار المصارحة واستشعار المخاطر، بحثا عن الحلول الكفيلة بالحد من هذا الانفلات. وقد كان المغرب سباقا، قبل أن تتبنى عواصم الاتحاد الأوروبي خطة التصدي لانضمام مواطنيها إلى التنظيمات الإرهابية، وتشديد الرقابة على الرحلات وقيام تنسيق أمني شامل في المطارات والمعابر والمرافئ، إلى إقرار خطة جريئة في هذا النطاق، مكنته من إحباط محاولات عديدة في استقطاب المقاتلين المحتملين. كما يتأكد ذلك من خلال الكم الهائل لأعداد الخلايا الإرهابية المفككة في ظرف وجيز.
لاشك في أن وجود مواطنين مغاربة وعرب وأجانب في تنظيم «داعش» يطرح أسئلة مؤرقة، تشمل طرائق الاستقطاب وحدود تأثير البيئة الحاضنة، بارتباط مع المتخيل الذي يحاول تضليل الناس ببطولات خادعة تتشابك فيها خيوط الوهم والسقوط في المزالق وطقوس الشحن الفكري. غير أن معالجة الظاهرة لا تتم عبر توجيه اتهامات مجانية للدول ذات التجربة الغنية في الحرب على الإرهاب. وبعد أن تعرض الاتحاد المغاربي إلى سلبيات الخلافات السياسية واستمرار حالات التدخل في شؤون الغير، تأتي اليوم ظاهرة الاستعداء لتنضاف إلى الركام الذي يحول دون انبثاق اتحاد مغاربي فاعل وإيجابي، خصوصا على مستوى العلاقة بين مكوناته.
وسيكون من العسير إقناع شباب منعوا من رحلات سياحية، بأن هناك مشروعا اسمه الاتحاد المغاربي، لا يسمح بحرية تنقل الأشخاص، لكن الباب لم يغلق نهائيا.