شوف تشوف

الرئيسية

الوعي العربي القديم بالزمن

عبد الإله بلقزيز

لم يبالغ المؤرخ العربي النهضوي الكبير جرجي زيدان حين ذهب إلى القول: إن أمة لم تعتن بتاريخها وبتدوينه بعناية، مثلما فعلت الأمة العربية. وهذا صحيح لا مِرْية فيه؛ إذ العرب أهل صناعة التاريخ (من حيث هو علم)، وتصانيفهم وتآليفهم فيه وافرة رصينة، منذ القرن الثامن للميلاد (القرن الهجري الثاني) حتى العصر الحديث، حتى أن أمهات مصادر التاريخ التي وضعوها (اليعقوبي، الطبري، المسعودي، ابن الأثير، الذهبي، ابن خلدون، المقريزي…) تضارع في القيمة العلمية – إن لم تفق- ما وضعه علماء أصول الفقه، وعلماء التفسير، وعلماء الكلام، والفلاسفة من مؤلفات في ميادينهم. بل إن المرء لا يكاد يجد موضعا من مواضع الوقائع لم يأت عليه المؤرخون بالتدوين، فتولد من ذلك أن صار في حوزة العرب والمسلمين تاريخ سياسي (تاريخ الدول والسلالات والحروب…)، وتاريخ اجتماعي (تاريخ الفتن والثورات والمجاعات…)، وتاريخ ديني (تاريخ المذاهب والفرق في الإسلام وتاريخ الأديان الأخرى في دار الإسلام)، وتاريخ ثقافي (تاريخ الأفكار وتاريخ الآداب) … إلخ، حُفِظَ منه الكثير، من حظ حسن، وضاع منه الكثير من سوء الحظ.
ولقد تعزز هذا الرصيد التاريخي الغني، الذي دارت نصوصه على تاريخ الأمة، برصيد مواز لا يقل غنى كان مداره على أفراد من الأمة والجماعة كان لهم – وعلى تفاوت – أدوار كبرى في تاريخ الأمة وقيادة مسيرتها، وإنتاج وعيها (النبي، الصحابة، التابعون، العلماء والفقهاء…). هكذا كُتِبَ في السيرة النبوية وفي مغازي الرسول «صلى الله عليه وسلم»، وفي كتب الطبقات والتراجم (للصحابة والفقهاء والعلماء والأطباء…)، ووُثِّقَتِ المرويات بسلاسل الإسناد التي كانت قواعدها متاحة لذلك العهد. هكذا لم يبق شيء من الحادث والطارئ في تاريخ العرب، جماعة وأفرادا، إلا وقد أُتِيَ عليه بالحفظ والتدوين لِتُرسَم، بذلك، لوحة أشبه ما تكون بالشفافة عن ذلك العهد الكلاسيكي من تاريخ العرب والإسلام.
ولقد أمكنها، بهذا المنتوج الثر من المصادر، أن تحفظ تاريخها من غارات الزمن والنسيان عليه فتضع معطياته تحت تصرف عشرات الأجيال اللاحقة منها. وهكذا، بمقدار ما كان انسكان العرب، في العهد الكلاسيكي، بالزمن شديدا إلى الحدود التي أفردت فيها مساحة معتبرة لعلم التاريخ ضمن علومها، كانت آثار ذلك الصنيع منها بادية في الثقافة العامة؛ حيث انشغلت نخب عدة منها بالتاريخ وامتهنته كصناعة؛ حتى أن علم التاريخ لم يبق من أحكار المؤرخين حصرا، بل خاض في غماره غيرهم من ذوي تخصصات أخرى: فقهاء، مفسرون. وهكذا كان يتزايد مع الزمن، في الوعي الجمعي العربي الإسلامي، الشعور الحاد بالزمن لتغتني معه الذاكرة الجماعية.
وما كان هناك ما يمكن أن يُستَغرب له في هذا المضمار؛ ذلك أن شدة الانهمام بالتاريخ والولع بكتابته حادثة تتصل بواقعٍ تاريخي موضوعي وحقيقي لا غبار عليه هو أن العرب، أنفسهم، من صناع التاريخ: تاريخهم الخاص والتاريخ العالمي في عهدهم. وعليه، فحين يكتبون التاريخ – أو يتولى منهم كتابته من هو أهل لذلك – فإنما يكتبون صنيعهم ويحتفون بأنفسهم وبما كَسَبت أعمالُهم. لقد كانوا سادة علم التاريخ لأنهم كانوا، في الوقت عينه، سادة التاريخ: التاريخ الذي اقترن بعهد صعودهم الحضاري، لذلك نزل العلم ذاك منهم منزلة الشاهد على ما اجترحوه حتى بات أشبه ما يكون طبيعة ثانية فيهم. وإذا كان يقال في العرب إنهم أمة مسكونة بالشعر يَنْأَخِذُ أكثرها بصوره وجزالة لفظه وأوزانه، فما ذلك إلا لأن بين الشعر والتاريخ أَكثر من حبل سرة؛ فإلى أن الشعر يؤرخ للذات ومنازعها وأطوارها حين تفخر، أو تمدح، أو تهجو، أو تتغزل، فهو يؤرخ للقبيلة ويُصَنّع صورتَها في وجه غيرها، ناهيك بأنه دفتر لتدوين أيام العرب. لا عجب، إذن، إنِ اجتمع رأي النقاد ومؤرخي الشعر على تسميته «ديوان العرب»؛ ففيه أول تدوين لتاريخها.
من النافل القول إن الأمم التاريخية، أي المسكونة بالتاريخ كتجارب وكفكرة، وحدها التي تفصح عن هذا النوع من العلاقة بالزمن، أي وحدها يستوقفها الزمن بما هو بعد وجودي فتنتبه إلى دوره في حياتها؛ خاصة حين يترسخ في اجتماعها كيان السلطة بحسبانها حاضنة لعلم التاريخ (كما هي حال السلطة في الإسلام وعلاقتها بالتاريخ).
لذلك فالغالب على ثقافات هذه الأمم – مثل الثقافة العربية الإسلامية – أن تقاوم ديناميات النسيان فيها، فتراها دائمة الصلة بماضيها لا تنقطع عنه ولا تدعه ينقطع عنها. غير أن ما هو في حكم الصحي، هنا (خاصة مقاومة النسيان والشعور بالأنا التاريخية)، قد يغدو مرضيا في حالات أخر تصير فيها الذات مسكونة بالماضي إلى حدود الانفصال الكامل عن حاضرها…

نافذة:
شدة الانهمام بالتاريخ والولع بكتابته حادثة تتصل بواقعٍ تاريخي موضوعي وحقيقي لا غبار عليه هو أن العرب أنفسهم من صناع التاريخ تاريخهم الخاص والتاريخ العالمي في عهدهم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى