بقلم: خالص جلبي
ماذا تعني كلمة «الهولوكوست Holocaust»؟
إنها كلمة إنجليزية، ولا يستبعد أن تكون لها أصول من لغات أخرى، وتعني حسب قاموس «المورد» المحرقة العظمى والإبادة الكاملة. وقد عرضت السينما الفيلم في أربعة أجزاء عما فعل النازيون باليهود، والواقع فهذا الجحيم لم يدخله اليهود وحدهم، وإن كان الصهاينة حاولوا توظيفه لحسابهم. وعدد من مات من الروس في الحرب العالمية الثانية فاق عدد اليهود حتى في الرقم الأقصى الذي رفعوه إلى ستة ملايين، فقد هلك من الروس بيد الآلة النازية 22 مليونا، وقد يكون رقم ضحايا اليهود صحيحا أو غير صحيح. كما شكك روجيه غارودي، الفرنسي اليساري الذي اعتنق الإسلام، وخفض الرقم إلى 600 ألف، وهو رقم كاف يذكر بمقولة ستالين: «إن موت إنسان تراجيديا، أما موت أمة فهو مسألة إحصائية». ولكن الأكيد أن فرق الإعدام النازية أرسلت إلى الموت طوابير لا حصر لها من الأنام، من كل الشعوب والثقافات ومن الجنسين.
ومن أصل 130 ألف يهودي في هولندا ذهب إلى معسكر الإبادة في «أوشفيتز» 105 آلاف، ولم يكونوا سوى وجبة متواضعة في مائدة هتلر. وأنا شخصيا خالطت الألمان، فعرفت من أخلاقهم الانضباط والنظام والصرامة والجدية والمثابرة والإرادة الحديدية، فإن قالوا فعلوا، وإن عملوا أجادوا، وإن وعدوا وفوا، وإن قتلوا أحسنوا القتل، وهو ما أتقنوه في معسكرات الاعتقال، وعنهم نقل الثوريون في العالم العربي أفانين الموت فقتلوا الأمة قتلا، كما جاء في كتاب «16 يوما من الجمر»، للشاعر «بيرقدار فرج».
وكان أحدهم يسأل: لماذا فعلت ما فعلت؟ فكان جوابه: كانت الأوامر. ومما كتب «أندري سيغفريد» في كتابه «سيكولوجية بعض الشعوب» في وصف الألمان، أن الألماني «يبكي على الحريق الذي أشعله بيديه، ويداعب الطفل الذي قتل أبويه، وطاعته لعمل الشر لا تفترق عن عمل الخير». ولذا فهم فريق عمل ممتاز متعاون في كل ميدان، سواء صناعة سيارة «المرسيدس» أو تدشين الهولوكوست.
وفي عام 1945م تم إنشاء محاكم نورمبرغ لمحاكمة رؤوس النظام النازي، وأهم ما ورد فيها أن الحرب اعتبرت جريمة لأول مرة في تاريخ الإنسان، وكل ما قاد إليها من قول وعمل، ولكن الفرحة لم تكتمل، لأن من شارك في الحرب لم يكونوا النازيين لوحدهم، فوجب تقديم ستالين وترومان أيضا إلى القضاء باعتبارهما مجرمي حرب. وبذلك انقلبت محكمة نورمبرغ من مسرحية إنسانية إلى كوميديا المنتصرين في الحرب، ووضع رأس النازية على المقصلة لوحده، وألقيت تهمة إشعال فتيل الحرب على هتلر منفردا.
وبين عامي 1963م و 1965م تم تحريك قضية أكبر معسكر إبادة في أوروبا الشرقية في بولندا الحالية، حيث أنشئ معسكر «أوشفيتز Auschwitz»، وبين جنباته مات الملايين، ومما طبق في غياهب ذلك المعتقل مادة (السيكلون ـ ب ـ CyclonB) لقتل السجناء سما، ثم حرقهم بأفران خاصة، حرصت النازية أن تبقيه أحد أسرارها التي لم يطلع عليها أحد، حتى تم اقتحام معسكر الرعب بعد انهيار الرايخ الثالث.
وفي مطلع عام 2005م وقف المستشار الألماني «شرودر» في بولندا وقفة حزن على ضحايا معسكر «أوشفيتز»، والقراء من العربية ليس عندهم تصور عن هذا الجيب الجهنمي، فقد مات فيه الملايين من الناس حرقا وقتلا وتعذيبا ومجاعة، ولم يكن يصدق العالم أن مثل هذا حدث، حتى اقتحمت قوات الحلفاء معسكرات الموت فرأت بقاياهم على شكل هياكل عظمية يترنحون، فقد كانت وجبة الفرد اليومية وعاء من حساء وكسرة خبز، ويقول «فيكتور فرانكل» في كتابه «الإنسان يبحث عن المعنى»، حيث كان فيه نزيلا، إن نظريات أكل قطعة الخبز اختلفت على طريقتين: هل يلتهم السجين قطعة خبزه بسرعة، أم يأكلها على دفعات فيتلذذ بها. ومما ذكر الرجل في كتابه الذي ينصح بالاطلاع عليه، أن من خرج من هذا الجحيم الأرضي كان يأكل في كل الأوقات بما فيها الليل، فكان أحدهم يستيقظ ليلا فيهجم على الثلاجة فيلتهم المحتويات، كل ذلك من الحرمان الطويل. ومما عرضت قناة «ديسكفري» طيار أمريكي وقع في يد الكمبوديين أسيرا، ونجا بأعجوبة أنه يتمتع بفتح باب منزله وإغلاقه في كل مرة، فأن يتمتع المرء بالحرية أعظم المنى، والرجل خبأ في بيته أطنانا من السكر والأرز والدقيق والعسل، فبعد المحنة لم يعد يأمن غدر الزمن.
ومن أعجب ما برع فيه النازيون آلة الدعاية، فقد كان بئيس الحظ الذي يقع في معسكر «أوشفيتز» يقرأ على المدخل «العمل يهب الصحة Arbeit macht gesund»، فإذا وطأ عتبة جهنم استقبلته فرق موسيقية تعزف بيتهوفن، فإذا اقترب من المهاجع شم رائحة غريبة تندفع من مداخن بعيدة، ولا يخطر في باله أنها لحوم البشر التي تحولت إلى حلقة من دخان، فإذا وصل المهجع دعا هنالك ثبورا. لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا.
نافذة:
الأكيد أن فرق الإعدام النازية أرسلت إلى الموت طوابير لا حصر لها من الأنام من كل الشعوب والثقافات ومن الجنسين