الهجرة إلى كندا نجاة أم غرق؟ (1)
خالص جلبي
اتصل بي صديقي الطبيب (محمد)، أخصائي الأمراض العصبية، فرحا أنه قد أتم الفحص الطبي قبل أن يتوجه إلى بلد البعد والبرد والغلاء كندا. إنه يعيش في بلد نفطي أصبح له فيه ربع قرن، وعليه أن يجدد إقامته كما يجدد إقامته للصلاة، هذه المرة بضرائب مريعة عليه وعلى كل فرد من عائلته. أذكر حين كنت في تلك الصحاري أنني كنت أدفع مبلغ 50 درهما مغربيا رسوم إقامة لثلاث سنوات، فأصبحت الآن ألف درهم لكل مقيم لكل شهر ولو كان رضيعا في المهد. لا تسأل طبعا عن فضيحة التغطية الطبية كما رواها لي أخي المهدد بسرطان البروستات، وهو يدور كالحمار في الرحى بين دوائر التأمين الطبي؛ فيرفض لفحص بسيط، ويترك مهملا في قاعات الانتظار تحت رحمة كادر لا يقيم له وزنا.
إنها كما نرى رسالة لشد الرحال إلى بلاد ريتشارد قلب الأسد، حيث يبدأ أطفال المهاجر رحلة الانخلاع من الثقافة العربية الإسلامية، بعد أن كان في الثقافة العربية الإسلامية، التي تخسر مواقع قدمها لصالح نيجيري وهندي يرطن بلغة ريتشارد قلب الأسد، الذي غزا يوما الشرق الأوسط فدحره صلاح الدين، ولكن صلاح الدين اليوم في مقبرته حزين لتبدل الأيام.
أذكر من مقالة كتبتها عن محنة المريض في تلك الصحاري الميتة، كيف يشرف على علاجه من لا يفهم لغته ولكنته، ويجب القيام بثلاث ترجمات حتى يفهم الطبيب النيجيري معنى كلمات المريض العربي المقرود؛ فكلفتني تلك المقالة أن أطير من عملي وأحرم من رزقي، وليست الأولى مع الأعراب، وعلى الكاتب أن يتقيد بقواعد الكلمة فيتقن الكذب والمديح بقدر جبال عسير. وعليه أن يقول قولا لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظا، ولا يحرض على الاستيقاظ من موسيقى الشخير العام.
في الواقع صديقي الطبيب استشاري الأمراض العصبية يرحل متأخرا عني ربع قرن، فقد حزمت أمري منذ نهاية القرن الفائت بعد أن وصلت إلى القناعة التي تقول إن بلادنا ليست لنا وإن وطننا تحول إلى سجن كبير. كان نزولي في كندا عام 1994م والمستثمر كان يستطيع دخولها برأسمال 150 ألف دولار كندي (هو أضعف من الأمريكي بحوالي 20 في المائة)، أما اليوم فعليه شحن مليوني دولار حتى يدخل الجنة الكندية. كندا اليوم تستقطب اثنين المال والعقول، وبلاد العرب تخسر الاثنين معا في جزية تؤديها لمستكبري العالم عن يد وهم صاغرون. إنها محنة التردي والهزيمة الحضارية العميقة لقوم لا يعقلون.
حتى النفط كان لعنة علينا. يروى عن الأصمعي أنه قال يوما لغلام ممتحنا: ما تقول أن أمنحك مائة ألف دينار بشرط أن تكون أحمقا؟ فكر الغلام ثم رفض! قال له الأصمعي: يا بني إنها مائة ألف دينار! قال الطفل: أضيعها وأبقى أحمقا! وهذا هو مصير أمراء النفط الأطفال!
أريد أن أروي طرفا من رحلتي إلى كندا حتى يفهم القارئ لماذا يهرب الناس من بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر كذا، عفوا بلاد الكرامة والرزق والعدل والجنسية في بضع سنين، أي اكتساب حق المواطنة، أما في بلاد شرع الله فلن يتجنس ولو بقي خمسون عاما كما رواها لي أخي عند جاره الحموي، وهو يواجه شيخوخته بذل وفقر ما يذكر بالآية من سورة «البقرة» التي تقول هل يرغب أحدكم أن تكون عنده جنة من نخيل وأعناب وتداركت الشيخوخة صاحبها وعند ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت. قال أخي للحموي الذي زوج ابنه وآواه عنده، فأصبح البيت الواحد مأوى لأكثر من عائلة مع الضيم والذل والفقر والفرار من براميل بشار الكيماوي. إنها أزمة مدمرة ومهددة لكل مواطن عربي ولا يفرح كثيرا أهل النفط فما عندهم ينفد وما عند الله باق، وإذا جاءت الأيام ورأينا الخليجي يشتغل عاملا في بنغلاديش فعلينا أن لا نتعجب فهذا قانون الله أن الأيام تتبدل، كما جاء في محكم التنزيل وتلك الأيام نداولها بين الناس. وفي يوم كان المغاربة سادة الأندلس، وهم اليوم متسللون خائفون يبحثون عن (الأوراق) في زيجات كاذبة مع نساء مسكينات من غصن الأندلس غير الرطيب. أعود إلى عام 1999م، حين كانت القاضية الكندية تنطق بكلمات واضحة بطيئة تكررها باللغتين الفرنسية والإنجليزية: أيها السيدات والسادة نحن نعلم الرحلة الصعبة التي قطعتم، والأوطان الغالية التي فارقتم، طمعا بمصير أفضل لتستقروا في هذا البلد الرائع. أيها الناس نحن فخورون بهذا الاستقطاب لثمانين إنسانا ينتمون إلى ما يزيد عن ثلاثين جنسية. تابعت: دخلتم هذه القاعة مهاجرين وتخرجون منها مواطنين مثلي لا أتميز عنكم بشيء. الحق أقول لكم ادخلوا هذا البلد بسلام آمنين، واعتنقوا الدين الذي به تؤمنون، وتنقلوا واعملوا في أي مكان تحبون، وادخلوه وغادروه في اللحظة التي ترغبون، تعلموا قول الحق والعمل به وفي ذلك لومة لائم لا تخشون. علموا أولادكم ذلك وعلى محاربة كل ألوان التمييز العنصري والجنسي كونوا حريصين.
في النهاية ختمت القاضية خطبتها: والآن قوموا فليسلم بعضكم على بعض، فقد أصبحتم بنعمة الله إخوانا. عندها لم يتمالك معظم من في القاعة إمساك دموعهم مبللة بذكريات مؤلمة من جمهوريات الخوف ودياسبورا التشرد، كان أكثرهم بكاء عائلة فلسطينية. كانت الخطبة تذكر ببيعة الصحابة لرسول الله (ص)!
هذا الكلام ليس دعاية للهجرة إليها، فالناس يهرعون إليها من مشارق الأرض والمغارب بأشد من جذب المغناطيس لبرادة الحديد بين قطبين: يأس من وطن لم يبق فيه مكان للمواطنة، وأمل بوضع القدم في أرض الميعاد، يسبحون في تيار أطلنطي على ظهر مركب من ذهب، لينعموا ببلد يجمع بين سحر الطبيعة والنظام وكل الضمانات، تحتل فيه كندا الرقم واحد في العالم، حسب إحصائيات الأمم المتحدة، على الرغم من برده الزمهرير في درجة حرارة قد تصل شتاء إلى 63 تحت الصفر، لا يشعر مواطنوه بذلك البرد الذي يضرب مفاصل المواطنين العرب في شتاء الشرق الأوسط الدافئ؛ فالحضارة كما نرى لا تعرف الجغرافيا!
لماذا يغادر الكندي بلده ويعود إليه في أي وقت يشاء وبدون تأشيرة؟ يعود هذا إلى مرسوم (الحريات والحقوق) الذي يسلم باليد كأول وثيقة مع تهنئته على الجنسية، تتضمن حقه أن يغادر بلده كما يحلو له فالوطن بيته، ومتى يسأل الإنسان وممن يأخذ إذنا بمغادرة بيته أو الإيواء إليه؟ أما الحدود العربية فقد تحولت إلى أسوار شاهقة لسجون كبيرة تحتجز مواطنا مسكينا ويتيما وأسيرا.