شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

المغاربة والسلاح قصص من زمن حلم فيه أجدادنا بصناعة الأسلحة

يونس جنوحي

 

«اهتم المغاربة فعلا بالسلاح وصناعة الأسلحة، لكن هذا كان قبل قرون، قبل مرحلة «سوء الفهم» الكبيرة التي سادت المغرب بعد 1956.

في سنة 1964 جرى إعدام شيخ العرب ومن معه، وكانت التهمة التي وُجهت إليهم حمل السلاح وتنفيذ اغتيالات، صنفت لاحقا على أنها في إطار تصفية الحسابات بين قدماء المقاومة.

قبل استقلال المغرب، كانت حيازة السلاح أمرا عاديا، بل ومطلوبا في أوساط الوطنيين والمقاومين. بهدف الدفاع عن النفس، وضمان الانخراط في الخلايا السرية. لكن بعد الاندماج وتأسيس إدارة الأمن، ومجيء شخصيات أمنية من عيار الجنرال أوفقير والكولونيل الدليمي، وشخصيات مدنية مثل أحمد رضا اكديرة، فقد جرى اعتبار حمل السلاح عملا إرهابيا، كرست الدولة كل وسائلها لمحاربته. المغاربة والسلاح.. قصة تستحق فعلا أن تُروى».

 

++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++

أجدادنا ترجموا للعربية كُتبا لتعليم صناعة القنابل والمدافع والمُسدسات

لا يمكن التعليق على المجهود الكبير الذي بذله المؤرخ المغربي محمد المنوني، إلا بتسجيل إعجاب بمقدار المخطوطات التي استطاع أن يميط عنها اللثام.

فهذا المؤرخ الذي حظي بمكانة خاصة لدى الملكين الراحلين محمد الخامس والحسن الثاني، وتوفي سنة 1999، مخلفا وراءه إرثا حقيقيا من التحقيقات في المخطوطات، توصل إلى معلومات غاية في الأهمية، نشرها في كتابه «مظاهر يقظة المغرب» تفيد بأن المغاربة عمدوا ما بين القرنين 18 و19 إلى ترجمة كتب أجنبية لتعليم كيفية صنع القنابل والمسدسات والمدافع.

يقول المنوني إنه عثر على نص مخطوط باللغة العربية، لمؤلف مجهول، ربما غاب عنه أن يسجل اسمه في المخطوط، بعد الانتهاء من ترجمة الكتاب إلى العربية، أو أن اسم المُترجم أزيل عمدا، حسب معايير ذلك الوقت، وتم الإبقاء على نص الترجمة للكتاب الأصلي الذي يتناول تفاصيل وشروحات مراحل صنع المدفعيات.

يقول المنوني إن المخطوط الذي توصل إليه يحمل عنوان: «ترجمة برنامج كتاب في فن المدفعية» وقد سمي الكتاب، حسب هذه الترجمة: «التفكير في عمل ما يصلح للطبجية»، وهو موضوع بالفرنسية، ولم تهتم الترجمة إلا بتعريب عناوين مقالاته البالغة 21 مقالة».

أي أن الترجمة كانت بغرض التعرف على نقاط من مراحل صناعة المدافع.

ومن بين المراجع التي تناولها المنوني أيضا، مرجع عن طرق الإلمام بالحياة العسكرية وتعلم أصول الجندية الأجنبية.

واختير للكتاب عنوان بالعربية كالآتي: «قطعة في التنظيم العسكري». يقول المنوني بهذا الخصوص:

«ويعرب الباب الرابع من كتاب موضوعي لم يذكر عنوانه ولا اسم مؤلفه، ويقول المعرب (أي المُترجم) المجهول: إن ما قبل هذا الباب ليس فيه فائدة، فلذلك بدأ الترجمة من الباب الرابع الذي يتناول ما يجب أولا على الداخل للجندية».

هذا الباب، الوحيد الذي جرى تعريبه، وجاء في صفحة واحدة فقط، رقمها 11.

يقول المنوني إنه يتوفر على نص المخطوط المُترجم في مكتبته، وإنه من بين المخطوطات النادرة التي جمعها خلال رحلة تنقيبه في هذا الباب.

 

 

الوزير الأول خاطب المغاربة عبر الراديو بشأن مخاطر انتشار السلاح بين المغاربة!

عبد الله إبراهيم الذي وصل إلى منصب الوزير الأول في حكومة 1959، التي ما زالت إلى اليوم محط الكثير من التساؤلات بخصوص نهايتها وكواليس إعفاء الوزير الأول من طرف الملك الراحل محمد الخامس، لكي تحل محلها حكومة ولي العهد.

كان امتحان تردي العلاقة بين القصر وحزب الاستقلال يخيم على حكومة عبد الله إبراهيم، بالإضافة إلى ملف المقاومين الذين رفضوا تسليم أسلحة خلايا المقاومة، بعد حصول البلاد على الاستقلال.

احتواء الخلايا المسلحة وسحب السلاح من الشارع، كان إجراء يفوق قدرات حكومة عبد الله إبراهيم، خصوصا وأن بعض قدماء المقاومة، ممن لهم الكلمة المسموعة في أوساط المقاومين، لم يكونوا على وفاق لا مع عبد الله إبراهيم ولا مع عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة.

لكن الواجب الحكومي للوزير الأول جعله يتردد على مقر الإذاعة المغربية، لتسجيل خطاب يُبث إلى المغاربة بخصوص الواقع الأمني وانتشار الاغتيالات، وتناسل مذكرات البحث عن المتمردين من مقاومين سابقين، رفضوا تسليم سلاحهم في إطار إدماج جيش التحرير مع الجيش الملكي. تقول بعض المصادر إن ولي العهد تحفظ في البداية على اسم عبد الله إبراهيم، واقترح أن تتكلف شخصية أمنية بالموضوع. لكن الملك الراحل محمد الخامس فضّل أن يتوجه الوزير الأول إلى المغاربة ويخاطبهم بشأن مخاطر انتشار السلاح ويُندد بانتشار الفوضى والاغتيالات، وهو ما يمكن اعتباره دعوة ضمنية إلى تسليم الأسلحة إلى الجهات الرسمية.

الباحث المغربي محمد لومة، الذي انفرد بجمع مذكرات الراحل عبد الله إبراهيم قبل وفاته سنة 2005، أورد نص الخطاب الذي تلاه عبد الله إبراهيم أمام ميكروفون الإذاعة المغربية في الرباط، وجرى بثه على رأس الساعة. ومن بين أقوى ما جاء فيه:

أيها المواطنون أيتها المواطنات

تسعون يوما مرت منذ تفضل صاحب الجلالة فأسند إليّ رئاسة الحكومة. في الظروف الصعبة التي تعلمون.

تأسست الحكومة، وكان عليها أن تواجه تحت قيادة صاحب الجلالة الملك محمد الخامس وبإرشاداته النيرة، أخطر حالة انزلقت إليها بلادنا منذ الاستقلال. فقد كان فريق من الشعب المغربي في حالة تمرد ضد حكومة صاحب الجلالة. وكان السلاح الأجنبي سلاح الخيانة، يشهره مواطنون ضد إخوانهم المواطنين بدون رحمة ولا حياء.

لذلك كان تثبيت الأمن هو النقطة الأولى في البرنامج الذي حدده صاحب الجلالة للحكومة الجديدة، وتلك حقيقة مؤلمة بالنسبة إلى أمة لم يمض على تحريرها سوى ثلاث سنين. وقد انكبت الحكومة منذ الأسبوع الأول لتأسيسها على مواجهة الحالة بما تستحقه من جد، ووجدت في العاهل الكريم في كل لحظة الرجل الذي يعرف كيف يجابه مسؤولياته بذكاء وحزم، كما وجدت في سمو ولي العهد رجل الواجب، كيفما كانت الأخطار ومهما كانت المصاعب.

ومن واجبي هنا أن أنوه بالجيش الملكي وشهامة وحداته، ومن واجبي أيضا أن أنوه بالقوات الاحتياطية التي أبلت البلاء الحسن في ظروف صعبة بالنسبة إليها. فقد قام هؤلاء وأولئك بواجبهم الوطني أحسن قيام وبأقل ما يمكن من الخسارات.

(..) أيتها المواطنات، أيها المواطنون

من واجبي أن أقول لكم والألم يحز في نفسي إن الحكومة عندما تأسست وجدت جهاز الدولة تتلاعب به الأهواء والنزاعات. فقد كانت حوادث التمرد المفجعة ناتجة في جوهرها عن سوء تفاهم بين الإدارة والسكان، الذين كانوا يتهمونها بأنها إدارة مسخرة بين أيدي أفراد لا علاقة لهم بالإدارة.

وقد كان هم الحكومة الأول ضمانا للمصالح العليا، هو إضفاء صبغة النزاهة والحياد على جهاز الدولة، حتى يصبح جميع المواطنين أمامه سواء. وحتى لا يطمع طامع في تحيز السلطة، ولا يخشى آمن من جورها. والحكومة بالمرصاد لمن يخرج من رجالها عن سواء السبيل. ذلك هو الشرط الأساسي لحرية المواطنين، ولا شيء أعبث هنا من البكاء والتظلم ما دام من الممكن محاكمة أي ظالم والاستنصاف منه، حتى لو كان رجل سلطة..».

 

++++++++++++++++++++++++++++

الأمريكيون تخوفوا من قدرات المغرب العسكرية قبل 1822

لم تكن مبالغة أن الأمريكيين تخوفوا قبل 1821 من درجة تسلح المغرب، وهناك اليوم أكثر من وثيقة تستقر في أرشيف مجلس الشيوخ الأمريكي، توثق لهذا القلق.

مراسلات بين مسؤولين أمريكيين والمغرب، في ذلك الوقت، كشفت هذا القلق بشأن القدرات العسكرية للمغرب، قبل الوصول الى اتفاق الصداقة الشهير في الفترة نفسها.

إذ إن الأمريكيين تخوفوا من دعم السلطان المغربي لبحارة طرابلس في ليبيا، بعد مهاجمتهم لسفينة شحن تجارية أمريكية.

المعلومات التي توصل بها الأمريكيون، وكشف التاريخ أنها صحيحة فعلا، أفادت بأن السلطان توصل برسالة من طرابلس يستنجدون فيها بالمغرب للتحالف معهم ضد أي هجوم أمريكي لحماية سفن الولايات المتحدة. وكان السلطان داعما لطرابلس في إطار الجهاد البحري.

لكن مستشاري السلطان ذكروا له أن فتح جبهة ضد الأمريكيين ليس في صالح المغرب.

وقبل أن يعرب السلطان للأمريكيين عن ضمانات الصداقة، لم يضيع الأمريكيون الوقت وذهبوا إلى حد البحث عن معلومات بخصوص إمكانيات المغرب العسكرية في المجال البحري.

ومن بين الذين استشارهم الأمريكيون نجد تجارا مغاربة يهودا، خصوصا منهم الذين انتقلوا من الصويرة إلى مانشستر. وهؤلاء التجار المغاربة لعبوا دورا كبيرا في تبديد المخاوف الأمريكية. إذ تحدثوا عن رجاحة عقل السلطان واستحالة استقطابه من طرف قراصنة طرابلس، وذكروا عددا من الاتفاقيات التي تجمع المغرب بالدول الأوروبية ومبادرات الصلح التي تمت في السنوات الماضية، خصوصا بعد 1750، واقترحوا على الأمريكيين المضي في هذا المسعى بدل التربص عسكريا بالمغرب.

كان الموقف المغربي غاية في الذكاء، فقد نصح طرابلس بالتعقل وعدم التعرض لسفن الأمريكيين، الذين كانوا وقتها قوة اقتصادية تكتسح العالم الجديد، بينما استقبل الوفد الأمريكي الرسمي وقدم لهم السلطان في قصر فاس ضمانات بأن المغرب، بصفته أول بلد في العالم يعترف باستقلال الولايات المتحدة، سوف يستمر في موقفه ويدعم حق أمريكا في ممارسة التجارة وعبور البحر المتوسط في اتجاه المحيط الأطلسي، ومنحهم السلطان مقرا لتشييد القنصلية الأمريكية لتكون بذلك أول بناية في العالم تمثل أمريكا خارج ترابها، وافتتحت سنة 1822.

في المفوضية الأمريكية الجديدة عين الأمريكيون موظفين لمزاولة مهام دبلوماسية على رأسها تنظيم عبور السفن الأمريكية، وهو ما أنهى مسلسل الهجمات التي استهدفت الأسطول الأمريكي. واكتشف الأمريكيون منذ ذاك التاريخ أن المغرب يملك ما هو أهم بكثير من المدافع، وهو حفظ التوازنات السياسية وإدارة مضيق جبل طارق باقتدار.

الأسطول البحري المغربي كان مكونا من عدد من السفن، لكن ما كان يرعب الأمريكيين ويقلقهم، أسطول قراصنة سلا الذين كانوا يحمون السواحل المغربية في المحيط الأطلسي. فقد تناهى إلى سمع الأمريكيين وقائع المواجهات بين البرتغاليين وقراصنة سلا، وتخوفوا من أن يكونوا خارج نطاق سلطات السلطان. ورغم أن الأمريكيين تلقوا ضمانات من المغرب، فقد ظلوا قلقين بشأن أنشطة الجهاد البحري في السواحل المغربية.

حاز القراصنة على البنادق والمدافع، وبعضها يعود إلى فترة الاحتلال البرتغالي للمغرب، وعتيقة الطراز، لكنها شكلت مصدر رعب للأمريكيين، سيما وأن التقارير التي تتوفر عليها واشنطن تؤكد أن قراصنة سلا الممارسون لجهاد البحر، كانوا موهوبين في التصويب واستعمال السلاح، ولا يترددون في استعمال المدافع، حتى لو كانت السفينة المستهدفة مزودة بآخر تقنيات التسليح في القرن 19.

 

 

بعثات منسية فتحت أمام شبان مغاربة فرصة هندسة الأسلحة الأوروبية

كانوا على درجة كبيرة من الحظ، هذا لا شك فيه. لكن بعضهم لم يوفقوا في مسعاهم، وعجّلوا بنهاية تجربة إرسال بعثات طلابية إلى أوروبا للتعلم في معاهد وجامعات عواصم أوروبية، قبل قرابة قرنين من الزمان. وكلما فشلت بعثة في إفراز نخبة مغربية مؤهلة في المجال العسكري، إلا وعادت التجربة لتتكرر مع سلطان جديد.

في سنة 1888 مثلا، في عز حكم السلطان الحسن الأول تقرر أن يتم إرسال طلبة مغاربة إلى فرنسا لتعلم أصول الإدارة العصرية، لكن لم تتوفر معطيات وافية بخصوص ثمار البعثة، وما إن كان أفرادها قد أضافوا للإدارة المغربية في ذلك الوقت. لكن تجربة أخرى في السنة نفسها وُجهت إلى إيطاليا، وبالضبط إلى «المدرسة الملكية الدولية الإيطالية»، والتقى الطلبة المغاربة هناك مع البعثة المصرية، التي جاءت للغرض ذاته.

لم يكن السلطان راضيا عن النتائج التي حققها الطلبة في هذه البعثة، وقرر سنة 1892 أن يتم اختيار بعض هؤلاء الطلبة لكي يتعلموا صناعة السلاح، على أن يعود البقية إلى المغرب، بعد أن ظهر للسلطان أن تجربتهم في أوروبا لا يمكن أن تستمر.

أحد هؤلاء الذين وثقوا لتجربة الطلبة المغاربة اسمه الحسين الزعري، وكتب بعد عودته إلى المغرب مخطوطا مهما تطرق فيه إلى تفاصيل الرحلة من بدايتها إلى أن جاء قرار السلطان بتوجيه نخبة من الطلبة للتخصص في السلاح. ومن جملة ما ذكره في مذكراته: «وصل إلى إيطاليا وفد يترأسه عبد السلام برشيد الشاوي، وذلك خلال سنة 1892، بأمر من مولانا السلطان الحسن الأول، وكان يحمل هدية ثمينة إلى ملك إيطاليا، تشتمل على أنفس المصنوعات المغربية من الذهب والفضة مرقومة منقوشة، مما جعل الصحف الإيطالية تشيد بذلك مفتخرة. فلما عزم السيد عبد السلام برشيد على مبارحة روما، قدم الإمبراطور هدية ثمينة فاخرة إلى مولانا الحسن الأول، وذكرت الصحف ذلك. وقال لنا مدير المدرسة إن الإمبراطور نزع خاتما من أصبعه وأعطاه للسيد عبد السلام برشيد قائلا له: اجعل هذا في أصبع جلالة سلطان المغرب، مغزى للمحبة والوداد اللذين بيننا. ثم أذن للسيد برشيد بالتجول في المدن الإيطالية، فلما وصل إلى مدينة ميلانو، اتصل تلفونيا بمدير المدرسة وطلب منه أن يأتي مصحوبا بكافة الطلاب المغاربة، وفعلا ركبنا في الغد قطار السكة الحديدية، ومعنا المدير والأستاذ مدرس اللغة العربية «ماركس»، وكان استقبالنا بأعظم فندق موجود بساحة الدومو، وأقيمت لنا مأدبة فاخرة، وزودنا قبل الافتراق بـ«لويز» ذهبي لكل واحد منا، ورجعنا إلى أعمالنا وسافر السيد عبد السلام إلى ألمانيا».

من بين المبعوثين أيضا، من تخصص في علم الكهرباء، بهدف إنشاء وحدات للطاقة الكهربائية والإلمام بتقنيات تزويد المعامل المغربية بالتيار الكهربائي، خصوصا المعامل التي كان يُعتمد عليها لتصنيع السلاح.

 

 

مذكرات من 1897 توثق لإشراف إيطاليين على إنتاج السلاح بالمغرب

عندما ترجم كل من د. مصطفى نشاط، المتخصص في التاريخ، ود. رضوان ناصح، المتخصص في الأدب الإيطالي، مذكرات السيدة الإيطالية «مادالينا»، زوجة المدير الإيطالي الذي تم تعيينه مديرا لدار الماكينة في فاس، وعاد في عطلته لكي يتزوج، واصطحب معه زوجته إلى فاس سنة 1897، فقد أعادا إلى الحياة أوراقا منسية من تاريخ المغرب، خصوصا في الجانب التوثيقي لاهتمام المغرب بصناعة الأسلحة.

تقرأ «مادالينا» سياق انتقال زوجها، السيد فرارا، إلى المغرب، وبالضبط إلى مدينة فاس لكي يشغل منصب مدير دار الماكينة، قائلة: «كان لفكرة إنشاء معمل إيطالي للأسلحة أنصار وداعمون عنيدون، على رأسهم عقليتان واسعتان جدا، إحداهما إسلامية والأخرى مسيحية، فالأولى كانت لرجل السياسة الصقلي العظيم الذي كان يريد لإيطاليا الشابة القوية بطاقاتها أن تحافظ على مكانة ذات أهمية أساسية بأوروبا، حتى على حساب النفقات التي كان الاقتصاديون يتخوفون من عدم كفاية ميزانيتها. والعقلية الأخرى كان يمثلها مولاي الحسن، أحد أكبر أذكياء ملوك المغرب الذي خطط كما ذكرت عدة مرات لنقل بلده اعتمادا على وسائله الخاصة إلى مستوى البلدان المتمدنة، وظن أن الإيطاليين كانوا الأدوات الأنسب لتحقيق أهدافه، لأنهم لم تكن لديهم بالمغرب أطماع كما هو حال فرنسا وإنجلترا وإسبانيا، وبالتالي لن يقوضوا استقلال المغرب. وإضافة إلى ذلك، كانت للإيطاليين حظوة لدى مولاي الحسن، بفضل التاريخ المشرق الذي كتبوه لاستقلال بلدهم، بعد سنوات من التعذيب والبطولات. إن شعبا خاض حربا ملحمية للتخلص من نير الاحتلال الخارجي، لا يمكن أن يصبح بدوره مؤيدا للعبودية.

وحوالي سنة 1887 كل العوامل ساهمت في تبلور موقف أخلاقي بإيطاليا من الدرجة الأولى تجاه المغرب، الذي كان يجسد طموح توسع حكومتنا، فضلا عن لطف السلطان المغربي تجاهنا. وحرصه على التقدم، وثقة السكان، وكفاءة وذكاء ممثلينا بطنجة ومعرفتهم العميقة بالعنصر المغربي. فعلا، بينما كان السيد «كنتاكللي» (وزير مفوض لإيطاليا بالمغرب) المستقر بفاس بسلطات كاملة، ينتزع امتيازات مهمة بقدرة وعزم من المغاربة المعارضين للمشروع الإيطالي، والذين كانت تحرضهم الدول الأوروبية المنافسة بالمغرب. وهناك انتصاران كبيران حققهما وهما المعاهدة من أجل إنشاء مصنع الأسلحة بفاس وتشغيله، ثم لجنة إنشاء السفينة البحرية المسماة البشير لفائدة البحرية المغربية التي عهد بها لورش «أورلاندو» بليفورنو.

اكتملت في نهاية 1893 أشغال ورشة معمل الأسلحة المهيب مع مختبر الخراطيش ومختبر إعداد فلمينات الزئبق، وهو عمل جدير بأن يتم بأي مركز أوروبي. والذي نجح في إنتاج خمس بنادق وألف خرطوشة في اليوم مكتملة الصنع. مما يمثل إنجازا عظيما في بلد منغلق كثيرا على الحضارة».

مدير دار الماكينة الإيطالي، السيد فرارا، لم يفشل في مهمته بالمغرب، على الأقل من وجهة نظر المغاربة أنفسهم، فقد كان مصنع السلاح في عهده قد وصل إلى قمة الإنتاج، وهو ما كان مُرضيا للمخزن المغربي الذي وقع الاتفاق مع الإيطاليين.

وحسب ما جاء في هذه المذكرات، فإن المصنع كان قادرا على إنتاج 2000 خرطوش في اليوم، وخمس بنادق. وهو إنجاز مهم جدا بمعايير القرن 19.

السيدة مادالينا لم تواكب مع زوجها بداية عمله في دار الماكينة، حيث إنه تعين في المغرب وبدأ الاشتغال في دار الماكينة، ثم عاد في عطلته السنوية إلى إيطاليا وتزوج هناك من السيدة مادالينا، ورافقته بعد العطلة إلى المغرب لكي تكون شاهدة عيان على واحدة من أقوى محطات صناعة الأسلحة في تاريخ المغرب.

 

 

لعنة السلاح.. التهمة التي لاحقت المعارضة المغربية

علاقة المغاربة بالسلاح تبقى شائكة جدا. السلاح ليس مرخصا به للمدنيين، وإلى حدود السبعينيات، كان توفر مواطن على قطعة سلاح كفيلا بتصنيفه من معارضي الدولة المخططين لإسقاط النظام.

في مؤامرة يوليوز 1963، كانت صور السلاح الموضوع في قلب قاعة المحكمة، كافية لتأليب الرأي العام ضد الاتحاديين والنظر إليهم على أنهم مخربون خططوا فعلا لقلب النظام في المغرب. وتكرر الأمر في محاكمة مراكش الشهيرة سنة 1970، إذ كان السلاح محركا لها أيضا.

فقد اتُهم محمد اليازغي وسعيد بونعيلات وأحمد بنجلون بالتخطيط لإدخال السلاح إلى المغرب. حتى أن كلا من بنجلون وبونعيلات جرى اعتقالهما في إسبانيا وسُلما إلى المغرب، ووجهت إليهما تهمة التحضير لتهريب السلاح نحو المغرب عبر الحدود لإطلاق ثورة مسلحة.

وفي ثورة 1973 المنسية أيضا، كان السلاح حاضرا بقوة، وحكم بالإعدام على دهكون ومن معه، في ما بقي آخرون على رأسهم الفقيه البصري وامبارك بودرقة، ملاحقين بتهمة التخطيط لانقلاب مسلح في المغرب، وإدخال الأسلحة عبر الحدود الشرقية للمملكة.

«لعنة» السلاح هذه، كانت حاضرة في كل المحاكمات التي هزت المغرب، وهو ما يكشف فعلا أن هناك حساسية بين المغاربة والسلاح.

انقلاب حقيقي وقع في حياة المغاربة، بعد أن كان التوفر على سلاح ناري إلى حدود 1956 أمرا عاديا، بل ومتوقعا. إذ إن أغلب أعضاء التنظيمات السرية للمقاومة، كانوا يتوفرون على أسلحة.

من بين المحامين الذين حضروا محاكمة مراكش الشهيرة التي انطلقت في صيف سنة 1970، نجد النقيب عبد الرحيم بن بركة، هذا الأخير جمع سنة 2014 جميع محاضر جلسات المحاكمة التي امتدت لأشهر، وذكر عددا من اللحظات المشتعلة التي كان السلاح موضوعا لها.

في محضر جلسة 26 غشت 1971، مثلا ذُكرت تفاصيل عن تهمة إدخال السلاح إلى المغرب، وهو ما كان كافيا لكي يتحسس المتهمون جميعا رقابهم.

كانت عقارب الساعة تتحرك ببطء شديد جدا، خصوصا وأن ممثل النيابة العامة كان مرتاحا، وأخذ أكثر من وقته في سرد تفاصيل كان يرى في اعتقاده أنها غاية في الأهمية.

لكن آذان بوعبيد والمحامين الذين كانوا معروفين بميولاتهم اليسارية ونشاطهم في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، انتصبت عندما سمعوا ممثل النيابة يتحدث عن محمد الفقيه البصري، الذي كان يحاكم يومها غيابيا، لأنه فار خارج المغرب: «إن البصري الذي أظهر غير ما مرة عداءه للعرش، وعبر في كثير من المناسبات عن أفكاره الثورية والاشتراكية المتطرفة، توجه إلى فرنسا للعمل ضد النظام. فبالرغم من فشله في المحاولات السابقة، ورغم العفو، إلا أنه استمر في عمله الفتاك من باريس. فرأى، لتحقيق غرضه، تأسيس منظمة تضم عناصر مختصة لتدبير المكائد، فأسس لها خلايا في كل أنحاء المغرب. بالإضافة إلى التهييء النفسي لأعضاء الخلايا، كان يهدف إلى تهيئتهم عسكريا فتدربوا في معسكرات خاصة للتدريب على السلاح.

فكانوا يتوجهون إلى جماعات في الشرق، فتسحب منهم الجوازات وتعطى لهم جوازات مستعارة حتى لا يتعرف واحد منهم إلى الآخر. ويرجعون إلى المغرب بعد أن يتم تزويدهم ببطاقات من مليلية.

في جميع هذه الأعمال التحضيرية كان البصري مع أقربائه ومنهم أجار، يفاوض مع الأجانب لتهييء السلاح. أثناء هذه المرحلة اكتشفت الشرطة هذه المكيدة في آخر سنة 1969. تقدم المتهم المناضي يوم 16 دجنبر 1969 تلقائيا لرئيس الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، وصرح أنه ينتمي إلى منظمة إرهابية تهدف إلى قلب النظام. وصرح تلقائيا أنه اتصل به آيت الموذن الذي قدمه للفرقاني والذي اقترح عليه الانضمام إلى المنظمة والعمل على تأسيس الخلايا. فأسس بمساعدة البزبوز ومسحق ثلاث خلايا في أمزميز، كانت تعطي دروسا تطبيقية ونظرية، وكان التدريب يتم على يد أحد المدربين واسمه «محمد»، الذي تبين بعد ذلك أنه شجار عبد الرحمن وكانت الدروس تستمر فترات طويلة».

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى