
يظل الرابط الاجتماعي في المغرب أحد المرتكزات الأساسية التي تعكس ديناميات المجتمع المغربي في ظل التحولات الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية. ولرصد هذه التحولات، كشف البحث المسحي الوطني لعام 2023، الذي أنجزه المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، عن معطيات دقيقة تعكس مدى تماسك المجتمع المغربي، وتوضح التحديات التي تواجهه في سياق العولمة والتغيرات الاجتماعية.
في هذا الخاص، تسلط «الأخبار» الضوء على أبرز نتائج هذا البحث، مع تحليل لتطور الروابط الأسرية والسياسية والاقتصادية، وتأثير جائحة كوفيد-19، بالإضافة إلى دور الإعلام والتكنولوجيا في تشكيل الوعي الجماعي. كما تناقش هذه الصفحة التحديات المستقبلية التي تواجه الرابط الاجتماعي، من قبيل تراجع الاهتمام السياسي، تنامي النزعة الفردانية ومستويات الثقة في المؤسسات والمجتمع.
النعمان اليعلاوي
ما مدى استقرار الرابط الاجتماعي في المغرب؟ وما التغيرات التي طرأت على قيم التضامن والثقة بين الأفراد؟ وكيف يمكن للمغرب تعزيز تماسكه الاجتماعي في ظل المستجدات المتسارعة؟ أسئلة يقدم عنها البحث إجابات استنادًا إلى التحليل المعمق للبيانات والمعطيات التي توصل إليها المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية.
باب لفهم الديناميات المجتمعية
يعد الرابط الاجتماعي في المغرب محورًا أساسيًا لفهم الديناميات المجتمعية التي تؤثر على التماسك الوطني، حيث تشكل العلاقات الاجتماعية، الهوية والثقة في المؤسسات مرتكزات رئيسية لضمان استقرار المجتمع. في هذا السياق، أجرى المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية النسخة الثالثة من البحث المسحي الوطني حول الرابط الاجتماعي لعام 2023، والذي يوفر رؤية معمقة حول تطور الروابط الاجتماعية، العوامل المؤثرة فيها والتحديات التي تواجه العيش المشترك في المغرب.
تم إنجاز البحث بناءً على عينة تمثيلية مكونة من 6000 شخص تفوق أعمارهم 18 سنة، موزعين على مختلف مناطق المملكة، مما أتاح إمكانية استقراء النتائج على عموم السكان. كما تم تنفيذ البحث الميداني بين دجنبر 2022 وفبراير 2023، مستفيدًا من البيانات المتراكمة من النسختين السابقتين لعامي 2011 و2016، ما سمح بمقارنة الاتجاهات الراسخة والتحولات التي شهدها المجتمع المغربي.
تكشف نتائج البحث أن الرابط الأسري لا يزال الركيزة الأقوى بين مختلف الروابط الاجتماعية، حيث يتمتع بدرجة عالية من الاستقرار مقارنة بالروابط الأخرى. في المقابل، سجل البحث تراجعًا في الرابط السياسي، حيث أظهر المغاربة عزوفًا متزايدًا عن الشأن السياسي وضعف الاهتمام بالمشاركة الانتخابية، مع تركيز أكبر على المطالب الاجتماعية والاقتصادية. كما أن تأثير العولمة والثورة الرقمية لم يؤثر سلبًا على الهوية الوطنية المغربية، التي لا تزال قائمة على ثلاثة مرتكزات رئيسية: الإسلام، الوطنية والعروبة، وإن كان الشباب وسكان المناطق الحضرية أكثر تأثرًا بالقيم الفردانية الجديدة.
أثرت جائحة كوفيد-19 على الرابط الاجتماعي المغربي بطرق متباينة. فقد ساهمت في تعزيز قيم التضامن الوطني والعيش المشترك، إلا أنها في الوقت ذاته أدت إلى تزايد بعض الظواهر السلبية مثل العنف الأسري وارتفاع معدلات الطلاق. كما أبرز البحث أن العوائق الرئيسية التي تواجه التعايش السلمي في المغرب تتمثل في الفقر، الظلم الاجتماعي، والرشوة، رغم تسجيل تراجع طفيف في تأثير هذه العوامل مقارنة بالدراسات السابقة. على النقيض، لوحظ انخفاض في تأثير الفردية والتطرف الديني، مما يشير إلى تطور إيجابي في بنية العلاقات الاجتماعية.
تحولات في القيم الاجتماعية
شهد المغرب خلال العقدين الماضيين تحولات كبيرة في منظومة القيم الاجتماعية، حيث برز تحول واضح من القيم التقليدية القائمة على التواكلية والاعتماد على الدولة في تلبية الاحتياجات الأساسية، إلى قيم أكثر فردانية تعكس النزعة نحو الاستقلالية وتحمل المسؤولية الشخصية. ويعود هذا التغير إلى عدة عوامل، منها التحولات الاقتصادية، زيادة الوعي بالتعليم وريادة الأعمال، وتأثير التكنولوجيا الرقمية على أنماط التفكير والسلوك.
أحد أبرز تأثيرات هذه التحولات هو ازدياد الاهتمام بالمبادرات الفردية وريادة الأعمال، حيث أصبح الشباب يميلون أكثر إلى إطلاق مشاريعهم الخاصة بدلاً من الاعتماد على فرص العمل الحكومي. وساهمت برامج دعم المقاولات الناشئة والتحفيزات المالية في تعزيز هذا التوجه، مما انعكس إيجابيًا على الاقتصاد من خلال خلق فرص عمل جديدة وتقليل الضغط على القطاع العام.
في المقابل، فإن تصاعد النزعة الفردانية قد يؤثر سلبًا على بعض مظاهر التضامن الاجتماعي، حيث تشير الدراسات إلى تراجع في بعض القيم التقليدية مثل التضامن العائلي والعمل الجماعي لصالح تحقيق المكاسب الفردية. كما أن التغيرات في أنماط العيش، خاصة في المدن الكبرى، أدت إلى زيادة الشعور بالعزلة الاجتماعية، مما يستدعي سياسات تعزز التفاعل الاجتماعي وتعيد التوازن بين القيم الفردية والجماعية.
على المستوى الاقتصادي، أدى التحول من التواكلية إلى الفردانية إلى زيادة الطلب على المهارات المتقدمة، مما فرض تحديات جديدة على سوق العمل، حيث بات من الضروري تطوير أنظمة تعليمية تستجيب لهذا التحول عبر تعزيز مهارات التفكير النقدي والابتكار. كما أن هذا التحول يعزز مفهوم الإنتاجية والمنافسة، وهو ما يمكن أن يسهم في تحسين أداء الاقتصاد الوطني.
الشباب بين العولمة والثورة التكنولوجية
سجلت الدراسة تحولًا معقدًا يختلف حسب الفئات الاجتماعية والجغرافية. رغم أن العولمة أثرت في العديد من جوانب الحياة، بما في ذلك الثقافة والتعليم والاقتصاد، إلا أن الهوية الوطنية المغربية لا تزال تظل قوية، خاصة بين الشباب في المناطق الحضرية الذين يتمتعون بمستويات تعليمية واقتصادية عالية.
تشير الدراسة إلى أن هذا التماسك في الهوية الوطنية يرتبط بالقدرة على الحفاظ على الثقافة المحلية والتقاليد في وجه التأثيرات الخارجية. فقد أظهرت أبحاث أن الفئات الاجتماعية الأكثر تحضرًا، الذين ينتمون إلى الطبقات الوسطى والعليا، لديهم قدرة أكبر على الحفاظ على التراث الثقافي في الوقت الذي يتبنون فيه بعض مظاهر العولمة. هؤلاء الأفراد غالبًا ما يكون لديهم تعليم جيد وأعمال تتيح لهم الوصول إلى وسائل الإعلام الغربية والمحتوى العالمي، لكنهم يبقون ملتزمين بالهوية المغربية في أساليب حياتهم اليومية.
لكن، في الوقت نفسه، تسجل الأبحاث أيضًا بروز تصورات جديدة لدى الشباب تتعلق بالفردانية، والتي تعد من أبرز نتائج العولمة. الفردانية، التي تشجع على تحقيق الذات والانفصال عن القيود الاجتماعية التقليدية، أصبحت سمة بارزة بين شباب المدن الكبرى. في هذا السياق، يبدأ الشباب في الابتعاد عن النمط الاجتماعي التقليدي الذي كان يعزز الروابط الأسرية والمجتمعية القوية، ليتجهوا نحو مفهوم أوسع من الحرية الشخصية والاستقلالية.
هذا التحول لا يقتصر فقط على الأبعاد الثقافية، بل يمتد أيضًا إلى مفهوم «الرأسمال الاجتماعي» الذي يعكس العلاقة بين الأفراد والشبكات الاجتماعية التي ينتمون إليها. ففي ظل التطور التكنولوجي، أصبح بإمكان الأفراد بناء شبكات اجتماعية خارج النطاق التقليدي للعائلة أو المجتمع المحلي، عبر منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، إنستغرام ولينكدإن. هذه الشبكات توفر فرصًا جديدة للأفراد لخلق علاقات جديدة تتجاوز الحدود الجغرافية والاجتماعية.
بالإضافة إلى ذلك، يظهر أن الشباب المغربي يتبنى أشكالًا جديدة من التواصل والعلاقات الاجتماعية، حيث تصبح هذه الشبكات الافتراضية وسيلة للتعبير عن الذات والهوية الشخصية. ومع ذلك، يبقى هناك توازن بين الحفاظ على القيم المجتمعية التقليدية وإعادة تشكيل الهوية الشخصية بما يتماشى مع العصر الرقمي والعولمة.
من ناحية أخرى، يعكس هذا التحول ظهور جيل شاب أكثر انفتاحًا على الأفكار العالمية، مثل قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي يتم نشرها من خلال الإنترنت. هذا الانفتاح يمكن أن يؤدي إلى تغيير في بعض جوانب الهوية الوطنية، حيث يتم تبني بعض القيم العالمية مع الاحتفاظ بالجذور الثقافية المغربية.
تداعيات «كوفيد19» على القيم المجتمعية
أثرت جائحة كوفيد-19 بشكل غير مسبوق على القيم الاجتماعية في المغرب، حيث كانت لها تداعيات كبيرة على الحياة اليومية للأفراد والعائلات والمجتمع بشكل عام. في جانب إيجابي، أسهمت الجائحة في تعزيز قيم التضامن الأسري والوطني. فقد أظهر العديد من المغاربة خلال فترة الإغلاق والتباعد الاجتماعي تعاونًا كبيرًا، سواء من خلال دعم الأسرة الممتدة أو من خلال مبادرات التضامن الوطني. إذ تضافرت جهود المواطنين والمنظمات غير الحكومية لتقديم المساعدة للفئات الأكثر هشاشة، مثل الفقراء والمرضى وكبار السن، مما عزز الإحساس بالوحدة الوطنية وضرورة التعاون بين جميع فئات المجتمع لمواجهة الأزمة.
ومع ذلك، كانت الجائحة أيضًا عاملًا في تفاقم بعض الظواهر الاجتماعية السلبية. فقد أدى التزام المواطنين بالإغلاق المنزلي لفترات طويلة إلى زيادة حالات العنف الأسري، نتيجة لضغوط الحياة اليومية والعزلة الاجتماعية التي فرضتها الجائحة. ارتفاع التوترات الاقتصادية والنفسية بين أفراد الأسرة بسبب فقدان الدخل أو العمل، إضافة إلى ضغط الظروف الصحية، ساهم في زيادة حوادث العنف الأسري. على سبيل المثال، سجلت تقارير عديدة ارتفاعًا في شكاوى العنف ضد النساء والأطفال في هذه الفترة، مما يعكس تأثيرًا سلبيًا لهذه الظروف على العلاقات داخل الأسرة.
من جهة أخرى، أسهمت الجائحة أيضًا في زيادة حالات الطلاق، حيث أظهرت بعض الدراسات أن فترة الإغلاق وما صاحبها من ضغوط نفسية واقتصادية ساهمت في تزايد التوترات داخل الأسر، مما أدى إلى زيادة حالات الانفصال. في بعض الحالات، أدى الوضع الراهن إلى تعميق الخلافات العائلية بين الأزواج، الذين وجدوا أنفسهم في ظل الظروف الاستثنائية مجبرين على التعايش مع بعضهم لفترات طويلة في بيئة مليئة بالضغوط، ما أدى إلى اتخاذ قرارات الطلاق بشكل أسرع مقارنة بالأوقات العادية.
هذه العوامل أسهمت في تراجع طفيف في قوة الرابط الاجتماعي، حيث تأثرت الروابط الأسرية والاجتماعية التي كانت قائمة على التعاون والانسجام. كما أن تأثير الجائحة كان مختلفًا من فئة إلى أخرى، إذ كانت الأسر التي تعاني من مشاكل اقتصادية أو اجتماعية أكثر عرضة لهذه الضغوط، بينما تمكّن البعض الآخر من التكيف بشكل أفضل مع الوضع.
في النهاية، يمكن القول إن جائحة كوفيد-19 كانت بمثابة اختبار حقيقي لقوة الروابط الاجتماعية في المغرب. وعلى الرغم من أن التضامن الوطني والأسري برز كأحد الجوانب الإيجابية، إلا أن الظواهر السلبية مثل العنف الأسري والطلاق أظهرت أن هناك حاجة ماسة إلى تعزيز التدابير الوقائية والدعم النفسي والاجتماعي لمواجهة تداعيات الأزمات الكبرى على المجتمع.
عوائق أمام العيش المشترك السلمي
أظهر البحث أن التحديات والعوائق أمام العيش المشترك السلمي في المغرب لا تزال قائمة، حيث تظل العوامل الاجتماعية والاقتصادية المؤثرة على التعايش السلمي قوية. أبرز هذه العقبات تتضمن الفقر، والظلم الاجتماعي والرشوة، وهي عناصر تؤثر بشكل كبير على العلاقات الاجتماعية وتعيق تحقيق التعايش السلمي بين أفراد المجتمع. على الرغم من الجهود المبذولة لمكافحة هذه الظواهر، إلا أن الفقر لا يزال يشكل تحديًا رئيسيًا، حيث يعاني العديد من المواطنين من صعوبة في الحصول على احتياجاتهم الأساسية مثل التعليم، الرعاية الصحية والإسكان، مما يؤدي إلى تفشي الإحباط والاحتقان الاجتماعي. كما أن الظلم الاجتماعي، الذي يرتبط بعدم تكافؤ الفرص والمساواة في الحقوق، يسهم في خلق شعور بالظلم بين الفئات المختلفة من المجتمع، مما يزيد من التوترات الاجتماعية.
الفساد، المتمثل في الرشوة والمحسوبية، لا يزال يعد من العوائق الأساسية التي تعرقل التقدم نحو مجتمع أكثر عدالة ومساواة. رغم الجهود التي تبذلها الحكومة لمحاربة الفساد، إلا أن هذه الظاهرة ما تزال تؤثر على الثقة بين المواطنين والمؤسسات الحكومية، مما يعمق من الفجوة الاجتماعية ويحد من فرص التعاون والاندماج بين أفراد المجتمع.
في المقابل، أظهرت النتائج تراجعًا طفيفًا في تأثير بعض المشاكل التقليدية مثل الفردية والتطرف الديني. إذ شهدت السنوات الأخيرة انخفاضًا في التأثير السلبي لهذه الظواهر مقارنة بالدراسات السابقة. فالفردية، التي كانت تمثل تهديدًا للعلاقات الاجتماعية في الماضي، بدأت تتراجع قليلاً مع زيادة الوعي بأهمية التعاون والتضامن بين الأفراد. أما التطرف الديني، فشهد تراجعًا جزئيًا بفضل الجهود التي تبذلها الدولة والمجتمع المدني للحد من الفكر المتشدد وتعزيز قيم التسامح والاعتدال في الدين.
رغم ذلك، لا تزال هذه التحديات تشكل عوائق أمام العيش المشترك السلمي، ما يستدعي مزيدًا من العمل على معالجة الأسباب الاجتماعية والاقتصادية لهذه الظواهر. يتطلب الأمر تكثيف الجهود لمكافحة الفقر وتعزيز العدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية في المؤسسات. كما أن مواجهة التطرف الديني والفردية تتطلب استراتيجيات تعليمية وتثقيفية طويلة الأمد تهدف إلى تعزيز ثقافة التسامح والاحترام المتبادل بين جميع فئات المجتمع.
ثالوث ركائز الهوية الاجتماعية المغربية
أكدت الدراسة أن هوية المغاربة ترتكز على ثلاث ركائز رئيسية: الإسلام، الوطنية والعروبة. هذه العناصر تشكل أساسًا قويًا لتعريف الهوية المغربية لدى أغلب المواطنين، حيث يعتبر الإسلام الدين الذي يجمع المغاربة ويشكل جزءًا من ثقافتهم وتراثهم. من جهة أخرى، الوطنية تمثل الروابط التي تجمع الشعب المغربي حول مفهوم الوطن والتضحية من أجل الحفاظ على وحدته واستقلاله. أما العروبة فتعتبر جزءًا من التاريخ الثقافي والسياسي للمغرب، خاصة أن اللغة العربية تمثل الهوية الثقافية والسياسية للشعب المغربي.
وفي ما يتعلق باللغة، أظهرت الدراسة استمرار تفضيل الثنائية اللغوية بين العربية والفرنسية، وهو ما يعكس الواقع الاجتماعي والثقافي في المغرب. إذ تعد العربية هي اللغة الرسمية للدولة ولغة التعليم والإعلام، بينما تُستخدم الفرنسية بشكل واسع في المجالات الإدارية، الاقتصادية والتعليمية، ما يجعلها لغة أساسية في حياة الكثير من المغاربة. الفرنسيّة أيضًا تُعتبر أداة للتواصل مع دول أخرى في شمال إفريقيا وأوروبا، ما يجعلها جزءًا من الهوية المهنية والثقافية للأفراد.
لكن، ومع الانفتاح المتزايد على الفضاء الأنجلوساكسوني، شهدت الفترة الأخيرة زيادة ملحوظة في استخدام وتعلم اللغة الإنجليزية بين المغاربة. وهذا يعود بشكل رئيسي إلى العولمة والتطورات التكنولوجية التي فرضت الحاجة إلى تعلم الإنجليزية للتواصل على المستوى الدولي في مجالات مثل التكنولوجيا، الاقتصاد والعلوم. أضف إلى ذلك أن الإنجليزية أصبحت أداة أساسية في التعليم العالي وفي عالم الأعمال، حيث توفر فرصًا أكبر للتعلم والتوظيف على المستوى العالمي.
هذا التحول في الاهتمام بالإنجليزية يعكس الانفتاح المتزايد على الثقافة الأنجلوساكسونية وعلى العالم الغربي بشكل عام، لكنه لا يعني أن اللغة العربية أو الفرنسية فقدتا مكانتهما في المغرب. بل، على العكس، تستمر هاتان اللغتان في الهيمنة على الحياة اليومية، بينما الإنجليزية تكتسب أهمية متزايدة بين الأجيال الشابة في إطار تزايد التفاعل مع العولمة والفرص الدولية.
الثقة في المؤسسات والمستقبل
أظهرت نتائج البحث أن المؤسسات السيادية والتعليمية في المغرب لا تزال تتمتع بمستويات عالية من الثقة بين المواطنين. المؤسسات السيادية مثل الملك والحكومة تحظى بتقدير كبير من الشعب المغربي، إذ تُمثل ضمانة الاستقرار السياسي والاقتصادي في نظر الكثيرين. كما أن المؤسسات التعليمية تحافظ على مكانتها المرموقة باعتبارها وسيلة أساسية لتحقيق التقدم الشخصي والمهني، خاصة في ظل الاهتمام المتزايد بالتعليم كأداة للنمو والازدهار في المجتمع.
في المقابل، تواجه المؤسسات الديمقراطية التمثيلية مثل البرلمان والأحزاب السياسية صعوبات في ترسيخ نفسها وبناء الثقة مع المواطنين، على الرغم من التحسن النسبي الذي سجلته هذه المؤسسات منذ عام 2011، تاريخ التعديل الدستوري الذي سعى لتعزيز الديمقراطية في البلاد. ورغم أن هناك محاولات لتطوير الممارسات الديمقراطية والتشجيع على المشاركة السياسية، إلا أن العديد من المواطنين لا يزالون يشعرون بالشك في قدرة هذه المؤسسات على تمثيل مصالحهم الحقيقية، ما يعكس وجود فجوة بين وعود الإصلاح وحقيقة الأداء السياسي.
من جهة أخرى، أظهرت نتائج البحث تحسنًا ملحوظًا في مستوى الثقة بين الأفراد في المغرب، حيث تضاعف معدل الثقة بين الأشخاص أربع مرات بين عامي 2016 و2023. هذا التحسن يعكس تغييرات إيجابية في السلوك الاجتماعي بين المغاربة، حيث أصبح الناس أكثر انفتاحًا على التعاون والتواصل مع بعضهم البعض. ومع ذلك، لا تزال هناك نسبة كبيرة من المواطنين الذين يعتبرون الآخرين غير جديرين بالثقة، وهو ما يعكس وجود تحديات في بناء شبكة اجتماعية قائمة على الثقة المتبادلة.
قد تكون هذه الفجوة في الثقة بين الأفراد نتيجة للظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي يعيشها العديد من المواطنين، بالإضافة إلى الافتقار إلى الشفافية في بعض القطاعات. كما أن تأثير وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي أسهم في تشكيل تصورات سلبية حول الأفراد والمجتمع، مما يعزز من مشاعر الريبة وعدم الثقة في الآخرين.
دور الإعلام والتواصل الاجتماعي
أظهر البحث أن شبكات التواصل الاجتماعي تلعب دورًا بارزًا في انتشار الأخبار الزائفة، حيث أكد 85٪ من المستجوبين أن هذه الشبكات تساهم بشكل كبير في تداول المعلومات المغلوطة. يعود ذلك إلى سهولة نشر المحتوى على هذه المنصات وعدم وجود رقابة كافية على المعلومات المتداولة، مما يسمح للأخبار الزائفة بالانتشار بسرعة بين المستخدمين. وعلاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي تداول الأخبار غير الصحيحة إلى تأثيرات سلبية على الجمهور، مثل خلق حالة من الارتباك أو الخوف. في السياق نفسه، أشار 71٪ من المشاركين إلى أن الفضاء الافتراضي يمثل تهديدًا للتماسك الاجتماعي، وهو ما يعكس القلق المتزايد حول تأثير هذه الشبكات على الروابط الاجتماعية الحقيقية. فعلى الرغم من أنها تسهل التواصل بين الأفراد، إلا أن الاستخدام المفرط لهذه الشبكات قد يؤدي إلى نوع من العزلة الاجتماعية أو تدهور في العلاقات الشخصية الواقعية، حيث يتم تفضيل التفاعل الافتراضي على التفاعل المباشر.
وبالرغم من هذه القضايا، يظل الاستخدام الأساسي لشبكات التواصل الاجتماعي متركزًا على الأغراض الاجتماعية، حيث يبقى الهدف الرئيسي لمستخدمي هذه الشبكات هو التواصل مع العائلة والأصدقاء، وهو ما يعكس فائدة هذه المنصات في الحفاظ على الروابط الشخصية بين الأفراد، خاصة في ظل الحياة المعاصرة التي تتميز بالتنقلات والضغوط اليومية. لكن، في المقابل، يظل الاستخدام السياسي للإنترنت محدودًا نسبيًا، إذ يعتقد العديد من المستخدمين أن الشبكات الاجتماعية لا تسهم بشكل كبير في الأنشطة السياسية أو في التأثير على الأوضاع السياسية. قد يكون هذا بسبب أن الكثير من الأشخاص يفضلون استخدام هذه الشبكات للتواصل الشخصي والترفيه، مما يجعل استخدامها في المجال السياسي أقل شيوعًا مقارنة بالأنشطة الاجتماعية.
التوقعات المستقبلية للرابط الاجتماعي
مع دخول العقد القادم، من المتوقع أن تتأثر الروابط الاجتماعية في المغرب بشكل متزايد بالتحولات الرقمية والاقتصادية. فمن جهة، سيؤدي تسارع الرقمنة وانتشار الذكاء الاصطناعي إلى إعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية، حيث سيصبح العالم الافتراضي أكثر حضورًا في حياة الأفراد، مما قد يؤدي إلى تعزيز التواصل الرقمي ولكنه قد يضعف في المقابل التفاعل الاجتماعي المباشر.
أما من الناحية الاقتصادية، فإن استراتيجيات النمو والتحديث التي تتبناها المملكة، مثل تعزيز الاقتصاد الأخضر والرقمي، قد تسهم في تحسين مستويات العيش، مما قد يؤثر إيجابيًا على الرابط الاجتماعي. لكن في المقابل، فإن استمرار التفاوتات الاقتصادية قد يزيد من الشعور بالتهميش، مما يتطلب سياسات فعالة لضمان توزيع أكثر إنصافًا للفرص والموارد.
على مستوى القيم، من المرجح أن يشهد العقد القادم تزايدًا في النزعة الفردية، خاصة بين الشباب، نتيجة التحولات الاقتصادية والتكنولوجية. كما قد تستمر الهوية الوطنية في التكيف مع هذه التغيرات، مع بروز تيارات جديدة تعزز التعددية الثقافية والانفتاح العالمي.
بناءً على هذه المعطيات، يتعين على صناع القرار تبني سياسات تواكب هذه التحولات، مع التركيز على تعزيز التماسك الاجتماعي، دعم المؤسسات، والاستثمار في التعليم والتكنولوجيا لضمان مجتمع متوازن ومتماسك في مواجهة تحديات المستقبل.
مؤطر
المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية يصدر نتائج النسخة الثالثة من البحث المسحي الوطني حول الرابط الاجتماعي
يعتبر فهم التطورات المجتمعية أحد مجالات الرصد الاستراتيجي الرئيسية للمعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، بهدف تحليل الديناميات الاجتماعية السائدة في المغرب. من هذا المنطلق، أجرى المعهد النسخة الثالثة من البحث المسحي الوطني حول الرابط الاجتماعي، معتمدًا على بيانات ودراسات تحليلية سابقة من عامي 2011 و2016. أسفر هذا البحث عن مجموعة من النتائج التي توفر معرفة معمقة حول المجتمع المغربي وتساعد في توجيه الاختيارات الاستراتيجية المستقبلية.
واعتمد البحث على تقنية أخذ العينات الطبقية الاحتمالية، حيث شملت العينة حوالي 6000 شخص تفوق أعمارهم 18 سنة، موزعين عبر مختلف مناطق المملكة، ما أتاح إمكانية استقراء النتائج على جميع سكان المغرب. تم إجراء الدراسة الميدانية بين دجنبر 2022 وفبراير 2023، ما وفر قاعدة بيانات حديثة حول التحولات الاجتماعية.
وتبرز نتائج البحث المسحي الوطني لعام 2023 ملامح التطورات الاجتماعية في المغرب، حيث يستمر الرابط الاجتماعي في التغير بشكل تدريجي تحت تأثير العوامل الاقتصادية والتكنولوجية والجيوسياسية. رغم استقرار الهوية الوطنية، فإن تزايد النزعة الفردية والمطالب المادية يطرحان تحديات مستقبلية. ومن هنا، يظل تعزيز التماسك الاجتماعي والثقة في المؤسسات أولوية استراتيجية لضمان استقرار المجتمع المغربي في ظل التحولات المستمرة.