المعركة في «الإنترنت»

ياسر عبد العزيز
لم يكن بالإمكان إلحاق الهزيمة بتنظيم «داعش»، من دون توافر قدر مناسب من الإرادة السياسية، والرغبة في العمل الجماعي، وتنسيق الجهود بين عدد من الدول التي انخرطت في الصراع معه، أو وقعت في مرمى نيرانه. وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، فإن الهزيمة الاستراتيجية التي مُني بها هذا التنظيم، بعدما حقق نجاحات مفاجئة وتوسعا فاق التوقعات، لم تحدث في ميادين القتال من خلال العمليات العسكرية فقط، لكنها وقعت أولا في ساحته الأثيرة… «الإنترنت».
سيمكن بسهولة شديدة إثبات أن «داعش» استطاع أن يسخر شبكة «الإنترنت» لمصلحة مشروعه الإرهابي بشكل فعال، وهو أمر بدا واضحا في امتلاكه عددا من المنصات الإعلامية الرقمية المؤثرة، والحسابات النشطة على أهم مواقع «التواصل الاجتماعي».
وقد طور «داعش» استراتيجية كاملة لإدارة أعماله على الشبكة، ووزع تلك الاستراتيجية على ثلاثة مجالات رئيسة: أولها يتعلق بالدعوة إلى نسقه العقائدي، وثانيها يختص بترهيب أعدائه وخصومه وصناعة صورته، وثالثها يتصل بتكريس آليات للاستخدام الميداني، بحيث استطاع أن يسخر «الإنترنت» لخدمة تحركاته وعملياته الإرهابية، ويجعل منها بنية اتصالية أساسية لأنشطته.
عام 2014، عقدت دول التحالف اجتماعا بشأن تنسيق الجهود ضد الدعاية الإعلامية للإرهاب «الداعشي»، وهو الاجتماع الذي حضره الجنرال جون آلين، المنسق الأمريكي للتحالف ضد «داعش»، ضمن نخبة من جنرالات الدول التي قررت الانضواء في تجمع لمواجهة التحدي الإرهابي الذي شهد ذروته في هذه الأثناء. ومما قاله الجنرال، آلين، أمام نظرائه من القادة الأمنيين آنذاك إن دول التحالف التي نجحت في تكبيد «داعش» خسائر كبيرة على مستوى العتاد والأفراد، أخفقت في مواجهته على ساحة «الإنترنت».
وعدد الجنرال آلين مرتكزات تفوق «داعش» في تلك الساحة، وشرح ما يمتلكه من قدرات أهلته لتحقيق النفاذ والتأثير عبرها، ورأى أن هزيمة هذا التنظيم لن تكون ممكنة إلا من خلال تقويض قدراته الاتصالية عبر الشبكة.
وبدا أن ثمة اتفاقا واضحا بين القادة الأمنيين، الذين سعوا إلى تحجيم الخطر «الداعشي»، على أن سلاح «الإنترنت» يعد أحد أخطر الأسلحة النوعية التي يمتلكها التنظيم، باعتباره «وسيلة تكنولوجية رخيصة الثمن، ويمكن التحكم فيها، سواء من مغارة في جبال أفغانستان أو من مقهى في قلب أوروبا». لهذا السبب، بدأت المواجهة الجادة بتحديد المسؤولية عن هذا الخلل، من خلال مساءلة سلطات النطاقات، ومراجعة القائمين على تشغيل وسائل «التواصل الاجتماعي»، إضافة إلى إطلاق أنشطة منسقة لإنتاج المحتوى المضاد.
بسبب تحديد المسؤولية عن توسع وازدهار الأنشطة الإرهابية للتنظيمات ذات الإسناد الديني على الشبكة، ومطالبة بعض الدول بضرورة فرض السيادة الوطنية على الفضاء «السيبراني» في مواجهة تصاعد المخاطر الإرهابية، تم تحقيق قدر مناسب من النجاح في تحجيم هذه المخاطر.
لا يمكن بالطبع أن نغفل أثر العمليات الميدانية التي استهدفت «داعش» في تفكيك قدراته الاتصالية؛ فعبر هذه العمليات أمكن ضرب مقار الإنتاج الإعلامي للتنظيم، كما تأمن حرمانه من التمويل السخي، فضلا عن القضاء على العناصر القيادية في استراتيجيته الدعائية. لكن التنسيق الدولي بين عدد من الدول الكبرى، والضغط على الشركات المشغلة لمواقع «فيسبوك»، و«تويتر»، و«يوتيوب»، أثمرا تحولا جوهريا، وأديا إلى إغلاق مئات آلاف المواقع والحسابات، التي استخدمها التنظيم في بث رسائله وترويج دعايته.
لم تكن هزيمة «داعش» ممكنة من دون إرادة دولية، وآليات ذكية، استطاعت محاصرة التنظيم على الشبكة العنكبوتية، وحرمته من وسيلة سهلة استغلها ببراعة لنشر إرهابه.
واليوم، يبدو أن دولا رئيسة في العالم الغربي بدأت تنظر إلى الخطر «الداعشي»، ضمن غيره من التهديدات المستندة إلى دعاوى دينية، باعتباره خطرا ثانويا منخفض الحدة. بل راحت تزيحه من رأس قائمة التهديدات التي تستهدف أمنها القومي وتماسكها الاجتماعي، لمصلحة الخطر الناجم عن بعض الجماعات القومية ذات النزعات العنصرية. إذ تعتقد حكومات دول مثل الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا أن الصعود اليميني والتأثير والانتشار الذي تحققه باطراد جماعات «تفوق البيض»، والمد العنصري المستند إلى دعاوى قومية، يمثل الخطر الأكبر على أمن العالم الغربي، ولذلك فهي تخطط وتنسق وتخصص الموارد لمواجهته.
وإذا استخلصت هذه الحكومات الدروس والعبر من تجربة مواجهة «داعش»، فإنها ستدرك أن المعركة مع هذه الجماعات العنصرية المتطرفة يجب أن تبدأ في «الإنترنت»، على أن تشمل إجراءات لحجب المحتوى المسيء والمحرض، بموازاة مبادرات جادة ومكثفة لإنتاج المحتوى الإيجابي المضاد.