المصادر المقربة.. ولعاب معالي الوزير
«المصدر» الوحيد الذي يعرفه المغاربة هو ذاك الذي درسناه جميعا في الدرس اللغوي، في صفحة كالحة من كتاب توقف عن الصدور للأسف. أما المصادر التي أصبح يلوح بها الزملاء في الصحافة، فالواضح أنها لا تعرف حتى ما هي السياسة.
إذا كان لأزمة أزبال إيطاليا من حسنة، فهي أنها كشفت لنا، بما لا يدع مجالا للشك، أن المغاربة ما زالوا بعيدين جدا عن حقهم في الولوج إلى المعلومة. ومنذ اليوم الأول لـ«الفضيحة» والناس يشرقون ويغربون.
في الحقيقة، يجب أن نكون شاكرين لسفينة الأزبال تلك، فلولاها لما عرف الرأي العام الوطني أي شيء بخصوص حرق أزبال الغير عندنا، ولولاها أيضا لما عرفنا أن ما يهم جميع السياسيين بدون استثناء، هو مصلحتهم السياسية أولا وأخيرا، وليس مصلحة المواطنين والبلاد.
فحتى محمد يتيم، قيادي «البيجيدي»، الذي لا يضيع فرصة أبدا ليوزع علينا الدروس ويكتب لنا افتتاحياته المملة، وجد نفسه «يشيّر» ذات اليمين وذات الشمال في الموضوع، وتبعه أغلب قياديي الحزب الذين أدلوا بسطلهم، الذي اكتشفوا، متأخرين بدون شك، أنه مثقوب.
لذلك، فإن الحسنة الوحيدة التي أبانت عنها سفينة الأزبال التي أثيرت حولها كل هذه الضجة، تعطينا جميعا درسا كبيرا في الأخلاق، وتكشف لنا أن هذه الأخيرة لا مكان لها أبدا في السياسة. فرد الفعل الأولي لأغلب مناصري الحكومة كان هو الدفاع عن الأزبال والقول إنها لا تشكل أي خطر على صحة المواطنين، وعندما ازداد الضغط وتعاظمت كرة النار، تراجعوا إلى الخلف وبدؤوا «يكشكشون» في البرلمان ويسائلون الوزيرة ويمثلون عليها، وعلينا جميعا، فصولا رديئة من مسرحية لم تكتب جيدا، لضيق الوقت وسرعة تغيير المواقف.
بعيدا عن الحيطي، وبعيدا عن السياق العام الذي يمر منه المغرب هذه الأيام، وهو اقتراب الانتخابات، فإن استيراد الأزبال يبقى سنّة تعرفها دول كثيرة حول العالم، إلى درجة أن هناك دولا بئيسة ابتليت بديكتاتوريات خالدة تعمد إلى إدخال أطنان من النفايات السامة التي تحتوي على إشعاعات اليورانيوم، وتأخذ مبالغ طائلة لدفنها تحت أرجل المواطنين الذين سرعان ما يتحولون إلى جماعة من المعاقين بحيث تنتقل الإعاقة إلى أجيال مقبلة منهم بسبب الإشعاعات السامة لتلك النفايات التي اتضح منذ البداية أنها نفايات عسكرية. وفي التسعينيات، انفجرت فضيحة متاجرة بعض الحكومات في إفريقيا الوسطى ببلدانها، وقبولها صفقات مغرية مع دول تتغنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي الوقت نفسه لا تمانع في طمر أطنان من المخلفات النووية تحت أرجل الفقراء لتحول حياتهم إلى جحيم.
في المغرب، يعلم كل الذين يعملون في أغلب معامل الإسمنت، أن الأفران التي يتطلب عملها توفير درجات حرارة تفوق الألف درجة لإحداث التفاعل اللازم لصناعة الإسمنت، لا توقد إلا بحرق الأطنان من النفايات، التي تكون تكلفتها منخفضة كثيرا بالنسبة لهم، مقارنة مع قيمة الطن الواحد من المواد الكيماوية غالية التكلفة التي توفر درجة حرارة تفوق الألف درجة. وبهذا تكون النفايات أقل تكلفة. وهذه النفايات، كما يعرفها العاملون في تلك المعامل، لا تعدو أن تكون عبارة عن متلاشيات عجلات السيارات وبعض المواد البلاستيكية التي توجد في سوق الخردة. أما أن تأتي أزبال مشحونة هكذا، لا أحد من هؤلاء الذين يفهمون في كل شيء، تحدث لنا عن محتواها على الأقل، ويوجهونها نحو الحرق «كما يقال»، فالأمر يدعو فعلا إلى الوقوف عنده ومحاسبة هؤلاء الذين فوض إليهم المغاربة تدبير أمورهم، وأخفوا رؤوسهم في الرمال، وحاشى أن تكون النعامة تطمر رأسها في الرمال خوفا من أحد.. ببساطة لأن النعامة لا تترشح في الانتخابات ولا تحصل على تقاعد مريح بعد مغادرة كرسي الوزارة.
مشكلتنا مع الأزبال لا يمكن أبدا حلها بوقف الاتفاقيات. فلدينا في المغرب آلاف الأطنان من الأزبال خلف الأحياء ووسطها. والمغاربة يعلمون أن هناك هكتارات مسيجة، تتربع عليها أطنان من متلاشيات عجلات السيارات والخردة والمواد التي لا يعلم أحد كيف تتحلل ولا ماذا يكون مصيرها ولا حتى الطرق السليمة لتخزينها.
لكي نقطع مع مشكل الأزبال هذا، ونضمن ألا تتكرر هكذا مهازل.. سنعود إلى البداية. اسمحوا للمغاربة بالولوج إلى المعلومة كما ينص الدستور، واجعلوا الفاعلين، صحفيين ومهنيين، قادرين على متابعة ما يجري خلف مكاتب هذا البلد، لنعرف على الأقل ماذا يستوردون لنا. أما هؤلاء السياسيون، فقد أبانوا، في امتحان الأزبال هذا، عن أن ما يهم كل «المقجوجين» بربطة عنق بئيسة، هو اللغو ونثر مادة حيوية واحدة في الهواء هي رذاذ «اللعاب».. وهو طبعا أخطر من كل الأزبال.