شوف تشوف

الرأي

المساواة.. مشروع اجتماعي دائم

المصطفى مورادي
يكاد يكون البحث في اللامساواة في التربية في الثلاثين سنة الأخيرة بمثابة مبحث قائم بذاته في مجال العلوم الاجتماعية، حيث اتخذ علماء الاجتماع من موضوع اللامساواة طريقة لتفسير الحياة الاجتماعية. يتعلق الأمر هنا بالانتقال من تحليل اللامساواة في توزيع الثروات، كما كان في النصف الأول من القرن العشرين، إلى اللامساواة كمؤسسات قائمة بذاتها في النصف الثاني منه. يسعفنا هذا الانتقال في فهم السياسات والثقافات والظواهر الاجتماعية عموما. غير أن السؤال في التربية يطرح بالشكل الآتي: لماذا أضحت اللامساواة معطى قبليا في المدرسة وليس بناء بعديا؟ وبلغة أخرى بأي معنى أضحت اللامساواة خاصية جوهرية في المدرسة بدل أن تكون مجرد نتيجة لوظيفتها؟ الحقيقة عند سوسيولوجيي التربية، ومن ضمنهم عالم الاجتماع الفرنسي الشهير فرانسوا دويبي، هي أن هناك أشكال من اللامساواة نراها ونتفاعل معها رفضا واستنكارا ومقاومة، وهناك أشكال أخرى لا نراها، بل وقد ندافع عنها دون أن ننتبه لطبيعتها الحقيقية. وهذا يظهر في الطريقة التي يتم بها تبرير ترتيب التلاميذ في التقويميات. لذلك فمسألة المساواة أو انعدامها، هي مسألة أكبر من أن تختصر في أرقام. والدليل هو أن رفض اللامساواة وتبرير رفضها لا يتعلق بثقافة الشخص أو مستواه التعليمي. بدليل أن رفض الظلم الناجم عن تطبيق مسطرة في الانتقاءات قد يوحد تلميذا يبلغ من العمر ست سنوات مع طالب في العشرينات ومرشح لمنصب في الأربعينات. فالتفكير في الظلم هو الذي سيُولِّد التفكير في العدالة. وتعليميا، فأشكال اللامساواة في التربية هي التي سمحت بظهور فكرة المساواة.
ما نريد قوله هنا، هو أن القضاء على أشكال اللامساواة في التربية لا يتحقق بمجرد دخول الأطفال في سن معين للتعليم أو بناء مدارس في القرى والبوادي أو تشجيع تمدرس الفتيات، بل إن الأمر يتعلق بمشروع حياة بالنسبة لأي مجتمع، ومن الصعب الاطمئنان هنا لأرقام ونسب التمدرس مهما كانت متفائلة. فكما أن مسألة المساواة تحتفظ بطابعها الفلسفي العميق، حتى عندما يتعلق الأمر بالدراسات السوسيولوجية، فإن المسألة ذاتها تبقى فلسفية عندما يتعلق الأمر بالتربية. صحيح أن هناك سندا فلسفيا قويا لما يعرف اليوم بالبيداغوجيا الفارقية، والتي تمتح من علوم طبيعية وإنسانية مختلفة لتبرير حاجة المدرسين لتنويع طرق التدريس. لكن الفكرة التي نفرض بها الامتحانات الموحدة، وعلى رأسها الإشهادية، أكبر دليل على أن اللامساواة هي جوهر التعليم، وبالتالي لا ينبغي التوقف عن محاربتها. صحيح أننا قد ندرس وفق إيقاعات مختلفة احتراما للذكاءات المتعددة، لكن جوهر كل تقويماتنا يستهدف نوعا واحدا من الذكاء، وهذا يظهر في الفرص التي نتيحها لذوي الذكاءين الرياضي واللغوي، ولا نتيحها لذوي الأنواع الأخرى.
فالقضاء على اللامساواة يتجلى، أيضا، في الحياة المدرسية، كما يرى فرانسوا دويبي، فالأنشطة المعرفية هي المسيطرة في حين أن الأنشطة التي تستهدف الوجدان والجسد ضعيفة إن لم نقل منعدمة. فحين نوفر مقعدا لطفل في البادية لا نكون قد أنصفناه مادمنا لم نوفر له أيضا ملعبا ومرسما ومسرحا. والاحتفاظ بطفل يبلغ من العمر عشر سنوات 30 ساعة أسبوعيا فوق مقعد لا يقل سوءا من عدم تمدرسه، خاصة على مستوى بناء شخصيته. فالمدرسة التي تحترم فعليا مبدأ المساواة لا تتضمن فقط الفصول الدراسية، وإحصاء التلاميذ لا ينبغي فقط أن يختصر في إحصاء الأقسام. إنما المدرسة المنصفة هي المدرسة التي تتضمن كل المرافق التي يحتاجها الأطفال ليبنوا أجسادهم وينموا عواطفهم الاجتماعية. من هنا لا يتعلق الأمر بمجرد مراجعة برامج وتحيين المعارف التي تتضمنها، أو مساعدة الأطفال في وضعية الهشاشة على التمدرس لمجرد التمدرس، بل إن المسألة أكبر بكثير. فكما أن المساواة في الحياة السياسية والاجتماعية هي مشروع لا ينتهي، فإن الأمر أولى في التربية أيضا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى