شوف تشوف

الرأيالرئيسيةصحة

 المرض العضوي والمرض النفسي

بقلم: خالص جلبي

 

إذا كان إنذار المرض العضوي الرئيسي هو الألم، فإن ألم المرض النفسي اثنان هما الخوف والحزن، وهما المرضان اللذان يعاني منهما معظم الناس، ويشكلان التحدي والعقبة التي على الإنسان اختراقها وتجاوزها. لذا انصب اهتمام القرآن في المعالجة النفسية بشكل رئيسي على تحرير الإنسان من هاتين العقدتين (تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا)، من خلال النظافة الأخلاقية والتطهير الروحي.

الخوف هو مما سيأتي، والحزن هو مما مضى وانقضى. وليس هناك من شعور عميق وهام مثل شعور الخوف أو الحزن. وحتى تمضي النفس في مرحلة الصعود الأخلاقية، فإنها تنتقل عبر محطات تتزود فيها بالطاقة الروحية لتصعد إلى مرحلة أكثر تقدما، فهي تصعد من مرحلة (النفس الأمارة بالسوء)، وهي تلك المرحلة المشوشة والفوضوية التي تنفعل فيها للوسط المحيط بها، حيث تتعطل إرادة البناء الأخلاقية، فإذا بدأت في رحلة البناء من خلال عملية المراجعة والمحاسبة والنقد الذاتي، تبدأ في الدخول في مرحلة (النفس اللوامة)، فإذا اكتملت هذه المرحلة أصبحت مكانا كريما يستحق أن يقسم الله بها، (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة). وعلى أرضية هذه المرحلة يمكن الانطلاق إلى المرحلة الثالثة، مثل إرسال الصواريخ والأقمار الصناعية، حيث تحمل كل مرحلة المرحلة التي بعدها، وتتكلل رحلة الصعود لاختراق جاذبية الشهوات والشبهات، عندما تصل النفس الإنسانية إلى مرحلة (النفس المطمئنة)، وبها تكون النفس قد اغتسلت من الخطايا تماما وتحررت من الأمراض النفسية، عندها يبدأ الشعور بـ(الأمن) الذي هو مقابل الخوف (أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)، ويبدأ الشعور بالسعادة التي هي مقابل (الحزن)، (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن عن ربنا لغفور شكور)، وإذا أردنا ربط هذه الأفكار، أي المراحل الثلاث ما بين النفس الأمارة بالسوء عبر النفس اللوامة إلى النفس المطمئنة، فإنها تشكل ثلاث حلقات مترابطة متداخلة في رحلة صعودية، مع قابلية للنكس إلى الخلف عند كسل طاقة التطهير والتسامي الأخلاقية.

ومع نظام الحلقات الثلاث هذه هناك ست من الملاحظات سوف نسجلها:

  • الأولى: علينا أن نلاحظ أن النفس الإنسانية في حالة ديناميكية لا تستقر مثل موج البحر، وفي اللحظة الواحدة قد تنتكس النفس وتمرض وتهبط، بل وتتدحرج إلى أسفل، وهذا يحتاج بالتالي إلى عملية تطهير لا يقف وهو معروف في العضوية، حيث إن حالة الصحة التي يتمتع بها الجسد، هي ذلك التوازن بين الهجوم الجرثومي الدائم ودفاع الجهاز المناعي الذي لا يكف عن الدفاع، تماما مثل عملية الاستقلاب في الجسم، ففي اللحظة الواحدة تنهدم ملايين الخلايا وتنشأ الملايين، تتكسر حلقات من التفاعلات الكيمياوية لتقوم محلها حلقات جديدة وهكذا، بل إن الجسم البشري برمته هو في حالة توازن بين الموت والحياة. وإذا كان الجسم من خلال خلاياه يموت ويحيا، فإن نسيج الحياة للجنس البشري برمته هو في حالة توازن بين الموت والحياة. وإذا كان الجسم من خلال خلاياه يموت ويحيا، فإن نسيج الحياة للجنس البشري هو على الشاكلة نفسها، فمع شروق شمس كل يوم تدفع الأرحام 270 ألف إنسان جديد إلى الحياة، ومع غروب كل يوم تبلع القبور 140 ألف إنسان، وتبقى الزيادة في حدود 130 ألف إنسان شاهدة على تفوق الحياة على الموت، لأنها من الحي الذي لا يموت (وهذا الرقم ازداد مع كتابة المقالة)
  • الثانية: وكما أن هبوط الإنسان لا حد له، كذلك فإن صعوده باتجاه رحلة التكامل النفسي لا سقف له.
  • الثالثة: إن الهبوط لا يحتاج إلى طاقة، في حين أن الصعود يحتاج إلى طاقة، وهذا يذكرنا بقانون أينشتاين الذي ذكرناه في مطلع المقالة، وهو ضمن المصطلح القرآني (الجهاد) فالجهاد، أي بذل الجهد المكافئ لرفع وتصعيد حالة النفس باتجاه تحقيق الذات، وتنشيط المثل الأعلى، وضبط الغرائز في الاتجاه الصحيح كما تضبط أي طاقة.
  • الرابعة: إذا كانت النفس المطمئنة قد استكملت شروطها لدخول عالم السعادة والجنة كما يحدث في المتقدمين لملء أي وظيفة شاغرة، فإن استكمال الشروط لا يعني دخول الجنة بصورة حتمية، بل لا بد لها من رحمة الله تعالى، وهذا يحمل المعنى الضمني من الأخلاقية الجديدة في التواضع.
  • الخامسة: إن عملية التطهير هذه لها وسائلها التي يمثل (الصوم) إحدى أهم الوسائل في (الاعتكاف الداخلي) وفي (المراجعة الذاتية) وفي (تنمية الإرادة) وفي (السيطرة على الغرائز) وفي (ترويض الشهوة) و(قمع الغضب)، والأخيرتان تعتبران من أشد الغرائز استحكاما بالنفس الإنسانية.
  • السادسة: إن الصوم يمثل هذه البانوراما في شحذ المثل الأعلى، وكما يقول عالم النفس (هادفيلد): إن المثل الأعلى هو أقوى عامل في تقرير خلق الإنسان، لأنه وحده الذي يستطيع تنبيه الإرادة، وتنظيم جميع الغرائز في كل واحد متناغم متوافق، وبدونه يصبح الإنسان تحت سلطان التأثيرات المشوشة التي تحدثها الغرائز المتصارعة، وبه تلتحم الشخصية بعضها مع بعض وتتماسك متجهة إلى غرض واحد مشترك. إن المثل الأعلى هو الذي يحدث بلوغه الاكتمال وتحقق الذات.

 

نافذة:

إذا كانت النفس المطمئنة قد استكملت شروطها لدخول عالم السعادة والجنة كما يحدث في المتقدمين لملء أي وظيفة شاغرة فإن استكمال الشروط لا يعني دخول الجنة بصورة حتمية بل لا بد لها من رحمة الله تعالى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى