المختار الزنفري :هكذا تحول «كاريان سنطرال» إلى حمام دم يوم 7 دجنبر 1952

كل الذين كانوا يحضرون في أنشطة لجان «كاريان سنطرال» كانوا منتمين لحزب الاستقلال. وبما أن الأغلبية كانوا يشتغلون في المعامل، فقد كانت هذه الاجتماعات مصدرا للوعي والتأطير النقابي.
وقبل أن أدخل في تفاصيل هذه المجزرة الأليمة، أود أن أشير أولا إلى صفحة أحداث السابع والثامن من دجنبر 1952، دُفنت وكأنها لم تكن.. ولعل الرصاصة الثانية، التي وُجهت إلى الشهداء، تمثلت في إقبار ذكراهم.
حتى الذين ينقبون في تاريخ المغرب لم يعتنوا بهذه المحطة النضالية الهامة التي كانت منعطفا في تاريخ الكفاح ضد المستعمر.
وهنا أستحضر أن ما شجعني عن الخروج عن «صمت السنين» كما يقال، رغبتي في إثارة هذه الواقعة، وحدث أن تكلمتُ عنها لأول مرة في حوار مع جريدة «الأخبار»، تناولتُ فيه بالتفصيل، وقائع ما جرى يومي سابع وثامن دجنبر، ونُشر يوم السبت 7 دجنبر 2019، وأستعيدها هنا في هذا الكتاب.
مساء يوم 5 دجنبر 1952، وصل خبر اغتيال النقابي التونسي فرحات حشاد. ولم يكن خبر مماثل ليمر مثل ما تمر الأخبار الأخرى التي تُقرأ في «النشرة». قادة حزب الاستقلال عملوا، بشكل واضح وجلي، على تجييش الناس ودعوتهم إلى التظاهر. وبحكم أنني كنت من شباب الكاريان المتحمسين، فقد وجدتُ نفسي منخرطا في تعبئة الناس لكي يخرجوا إلى التظاهر في الدار البيضاء.. بل وأوكلت إلينا مهمة التواصل مع الناس وحثهم على التظاهر، وتذكيرهم بأهمية العمل النقابي وحقوق العمال، والتعريف بمن يكون فرحات حشاد.
استغرقت تعبئة الناس يوما كاملا. طيلة السادس من دجنبر، كانت هناك دعوات للخروج إلى التظاهر في اليوم الموالي.
يوم أسود
السابع من دجنبر 1952. يوم لم يشهد له سكان «الكاريان» مثيلا في حياتهم.
لم يكن مفاجئا أن يلبي السكان الدعوة إلى التظاهر. فقد كانت تلك عادتهم. منسوب الوطنية كان عاليا جدا، وصور السلطان سيدي محمد بن يوسف لا يخلو منها بيت من بيوت الحي. شعار «ملك الكاريان» الذي أطلقه الفرنسيون على جلالة السلطان، كان يعكس وعي الإقامة العامة بهذه الحقيقة. ولم يكن اسم سيدي محمد، خصوصا في فترة المنفى، يُذكر بين سكان «الكاريان»، إلا ويجهشون بالبكاء.
هذا الحس الوطني جعل الناس يُقدمون، دون تفكير، على المشاركة والتظاهر ضد سياسة فرنسا في تونس والتعبير عن شجبهم لاغتيال النقابي فرحات حشاد.
انطلقت المظاهرة، ولا زلت أذكر تلك الأجواء الحماسية، والأطفال حفاة وهم يتسابقون إلى مقدمة الصف الأول، بينما كان المؤطرون يرددون الشعارات ويزيدون من حماس المتظاهرين.
لاحظتُ أن كل زقاق تمر المظاهرة بقربه، إلا وينضم الواقفون على حدوده، إلى حشد المظاهرة.. وهكذا ازدادت أعداد المشاركين في ظرف قياسي جدا.
أعطى المشرف على الأمن في الدار البيضاء، وكان عسكريا فرنسيا، أوامر تقتضي إطلاق النار على المتظاهرين. وهنا بدأت المأساة.
هل كان المشاركون يتوقعون أن يصبحوا أهدافا متحركة للشرطة الفرنسية؟ كنا صراحة نتوقع أن يكون هناك قمع للمظاهرة، لكن ليس إلى درجة أن يتطور الأمر إلى مواجهة المتظاهرين السلميين بالرصاص الحي.
لمحنا أعدادا من رجال الأمن الفرنسي يقفون في مكان مقابل للمظاهرة. وبدأت تتسرب أخبار عن تطويق «الكاريان» ومنع المشاركين من مغادرة حدوده.
لم يتم تنبيه الحشود أو حتى تهديدها مثل ما يقع في المظاهرات عادة، بل انتقل الفرنسيون إلى إطلاق النار مباشرة بمجرد ما أن اقتربت منهم صفوف المتظاهرين.
.. كان الرصاص يمر بجانبي. كنتُ يافعا جدا ومتحمسا، وكنا جميعا نتقدم في المظاهرة رغم أن القمع بالرصاص كان في تزايد. رأيت المئات يسقطون بالرصاص بعد أن يصابوا مباشرة في الرأس أو الصدر.
بدا واضحا أن التعليمات التي تلقاها مُطلقو النار، أن يطلقوا النار للقتل وليس لإخافة المتظاهرين أو تفريقهم. الجرحى كانوا يسقطون أرضا بأعداد كبيرة. هناك من أصيبوا بجروح بالغة لأن الرصاص أخطأ إصابتهم في مقتل، وجُرحوا على مستوى البطن أو الفخذ. ونزفوا بشدة. لقد رأيت الموت بشكل جلي في ذلك اليوم.
بطولة بتاء التأنيث
بدأ خبر مواجهة المظاهرة بالرصاص يصل إلى داخل الكاريان، وبالضبط إلى البيوت التي لم يتبق داخلها إلا النساء والعجائز.
ساد ارتباك كبير، خصوصا في الدقائق الأولى التي تلت أولى «جولات» إطلاق الرصاص. وهنا لا بد أن أشير إلى أن هناك أبطالا مجهولين بين المتظاهرين. أبطال لم يزحزحهم الرصاص، ولم يتقهقروا أو يتراجعوا إلى الخلف.. بل واصلوا سيرهم إلى الأمام. منهم من نجا، لكن أغلبهم أصيبوا إصابات مباشرة قاتلة، أو جروح خطيرة.
عندما علمت النساء أن أزواجهن وإخوانهن يسقطون برصاص البوليس، خرجن إلى مكان المظاهرة، وشرعن في تفقد المصابين، دون خوف من أن يتعرضن للإصابة بدورهن.
انخرط الشبان في سحب جثث الموتى والجرحى أيضا، وهنا أريد أن أشير إلى الدور البطولي الذي لعبته بعض النساء داخل الكاريان. لقد كانت لديهن الشجاعة لتضميد جراح الجرحى رغم أن تعليمات البوليس الفرنسي كانت صارمة وتوعدوا، من خلال المقدمين والقياد، بعقاب كل من ضُبط وهو يساعد المصابين.
تم تطويق كاريان سنطرال بشكل مرعب وصارم حتى لا يدخل إليه أحد.
سجن كبير من الصفيح
تحول كاريان سنطرال، في مساء يوم السابع من دجنبر، إلى سجن كبير. عندما نزل المساء، كان الهم الأكبر لمن بقوا على قيد الحياة، إنقاذ المصابين الذين كانوا ينزفون بدرجات متفاوتة.
بقينا على تلك الحال طيلة المساء واستمررنا في نقل جثث الشهداء إلى حدود الخامسة صباحا. تصور أن أغلب الشبان لم يناموا نهائيا في تلك الليلة. فقد كانت الأوامر لرجال البوليس تقضي بإطلاق النار وقتل كل من يتحرك في الشوارع والأزقة.
تلك الليلة كانت تاريخية بكل المقاييس. وعاشها سكان الكاريان بكثير من الترقب. إذ كان داخل الكاريان مسجد تحول إلى مكان لإبعاد جثث الموتى عن الأنظار. قضينا نحن الشباب الليلة في نقل الجثث.
أصوات البكاء سيطرت على الأجواء في تلك الليلة. حتى نحن الشباب الذين كنا متحمسين في الصباح، وبيننا مُتعلمون ونقابيون وأطر من الحزب، ونشطاء في اللجان التي أشرتُ إليها سلفا، تجاوزتنا الأحداث جميعا، وبدا لنا أنها خرجت عن السيطرة.
لا أحد كان يتوقع أن تتطور الأمور إلى ما آلت إليه. كنا ننقل الجثامين في صمت، ونضعها فوق حصير مسجد «الكاريان». ونخرج لإحضار جثة أخرى. ومع مرور الوقت، أصبنا بالذهول لكثرة الشهداء. كان علينا نقل مئات الجثث التي تحمل إصابات مباشرة في الرأس والصدر، ووضعها جنبا إلى جنب.
أما المكان الذي جُمع فيه الجرحى، فلا توجد كلمات لوصف أجوائه. لقد كان التدخل همجيا.. وكفى.
قضينا ليلة كاملة بلا نوم. وكيف سيغمض لك جفن في تلك الظروف؟
عندما انتهينا من نقل جثامين الشهداء إلى المسجد، صار همنا، مع طلوع شمس يوم 8 دجنبر، إنقاذ الناجين والمصابين.
أول لقاء مع د. الخطيب
أكبر كابوس كان يحيط بنا، حصار الكاريان. أعطيت التعليمات بتطويق المكان. فرغم انتشار أجواء الموت، كانت السلطات الفرنسية تركز على ضرورة اعتقال الذين يقفون وراء تنظيم المظاهرة.
بدأنا نفكر في طريقة لإحضار أطباء وممرضين لتضميد جراح المصابين. كان هناك مصابون يحتاجون إلى عمليات جراحية وليس فقط إلى الضمادات.
كنتُ أسمع عن طبيب، فتح عيادته للتو، ويساعد المرضى والمصابين. وتوسمنا فيه خيرا.
كان الأطباء المغاربة وقتها يُعدون على رؤوس أصابع اليد الواحدة. أغلب الأطباء في الدار البيضاء فرنسيون، ويستحيل أن يتطوعوا لمهمة إنقاذ المصابين. لذلك انصب تفكيرنا مباشرة على الدكتور الخطيب.
فكرنا في التوجه إليه وإحضاره إلى الكاريان. والسبب أن عون السلطة في الكاريان أخبرنا أنه لا يمكننا أن نُخرج جثامين الموتى، للدفن، إلا بشهادة من الطبيب وحذرنا من عواقب نقل الشهداء إلى المقبرة لدفنهم دون تلك الشهادة. والمشكل أننا لم نكن نعرف هوية أصحاب الجثث. لقد كانت المظاهرة كبيرة والذين ماتوا لم يكونوا يحملون بطائق هوية ولا أي شيء. وكان صعبا جدا تحديد هويتهم.
كانت الفكرة أن نُدخل طبيبا أولا إلى المكان، بقصد استصدار الشهادة التي ألح عليها أعوان السلطة، لكن الهدف الأسمى كان علاج المصابين وإنقاذهم.
كنا عددا من الأصدقاء أذكر منهم بالأخص ناصح محمد بن المحجوب، وكان سوسيا أصيلا.
تقرر أن ننتقل معا من الكاريان لإقناع الدكتور الخطيب بالمجيء معنا. وكنا اثنين نملك دراجتين هوائيتين للسباق. وصلنا بسرعة إلى عيادة الدكتور عبد الكريم الخطيب. وكانت تقع فوق «كراج العالم».
عندما دخلنا عيادته وجدنا مرضى ينتظرون دورهم. كان منظرنا مرعبا بحكم أننا جئنا من أجواء المظاهرة والقتلى والجرحى وقضينا ليلة بيضاء تماما بدون أي دقيقة نوم. تعاطف معنا المرضى الذين كانوا ينتظرون دورهم بعد أن طلبنا منهم أن يسمحوا لنا أولا برؤية الطبيب لغرض مهم جدا.
أذكر أنني بعد أن دخلت إلى مكتبه وأخبرته بما وقع في كاريان سنطرال أنه قال لي: «سمعت أن شيئا كبيرا وقع في الكاريان». لم تكن لديه تفاصيل لأن المكان كان محاصرا ولم يكن هناك تداول إعلامي للواقعة.. لكنني أحسستُ أن الرجل كان يعرف أكثر مما يقول.
ثم سألني عن انتمائي القبلي. قلتُ له إنني من دكالة لكني غادرتها بعد وفاة والدي، وذكرتُ له أسماء بعض أعمامي ودار بيننا حديث قصير عن «دكالة».
كان رحمه الله يُحب مدينة الجديدة، ووثق بي. ولم يتردد في تقديم يد المساعدة.
جاء إلى كاريان سنطرال وانهمك في خياطة جروح المصابين وتضميدها. وقام بعمل كبير في ذلك اليوم. استمر لساعات طويلة في معاينة الجثث والجرحى ومعه شبان الحي لتقديم يد المساعدة له.
كانت تلك بداية صداقتي مع الدكتور الخطيب، والتي استمرت، بدون انقطاع، منذ دجنبر 1952، إلى حين وفاته رحمه الله يوم 28 شتنبر 2008. كانت ستّا وخمسين سنة من الود والنضال المشترك.